صدى الشعب – كتب المحامي محمد عيد الزعبي
عرضت عليّ، كمحامٍ، قضية منظورة أمام إحدى محاكم الصلح، تتعلق بمطالبة مالية من شركة إقراض بحق متقاعد عسكري اقترض مبلغ 500 دينار، ليتبين لاحقًا أن الشركة تطالبه بسداد 900 دينار خلال 18 شهرًا. للوهلة الأولى قد يبدو الأمر بسيطًا، لكن عند التدقيق نكتشف أننا أمام صورة فاضحة للاستغلال المالي، مغلفة بعقود قانونية ظاهرها الرحمة، وباطنها ربح فاحش وابتزاز مقنّع.
نسبة الربح تتجاوز الـ80% من أصل المبلغ، أي ما يزيد عن 50% سنويًا. فهل يُعقل أن يكون ذلك قانونيًا؟ وهل الدولة، ممثلة بجهاتها الرقابية، تقرّ مثل هذه الممارسات؟ وهل يملك المتقاعد، الذي أفنى شبابه في خدمة الوطن، رفاهية التحقق من هذه التفاصيل الدقيقة؟ أم أنه يُساق نحو فخ الديون بعينين مغمضتين وورقة توقيع؟
من المسؤول عن هذا التغوّل؟
الدولة ممثلة بالبنك المركزي والجهات الرقابية، هي المسؤولة عن ضبط أداء الجهات التي تقدم القروض. فهذه المؤسسات مطالبة قانونًا بالشفافية، والإفصاح الكامل عن الكلفة الإجمالية للقرض، والامتثال للحدود القانونية لنسبة الأرباح، بل ومراعاة قدرة المقترض على السداد.
لكن على أرض الواقع، نرى شركات تفرض نسب أرباح وفوائد خيالية، تتجاوز كل ما يمكن وصفه بـ”المعقول”، مستغلة حاجة المتقاعدين، وضعف الوعي القانوني لدى الكثيرين، وغياب الحماية المسبقة التي من المفترض أن تكون من حقهم.
هل التوقيع على العقد يسقط الحق؟
من الناحية القانونية، التوقيع على العقد لا يُضفي المشروعية على كل ما فيه.
فالقانون المدني الأردني، في أكثر من موضع، يعطي القاضي الحق في التدخل إذا تضمن العقد شروطًا مجحفة أو إذا تبيّن وجود غبن فاحش. المادة 203 من القانون المدني مثلًا، تجيز للقاضي تعديل أو إلغاء الشروط التي تتجاوز المعقول، حتى لو وُقّع عليها.
كما أن العقود التي تُبرم مع أشخاص في ظروف اقتصادية صعبة أو من فئة محدودة الدخل، يجب أن تراعي مبدأ العدالة قبل الربح، وأي تجاهل لذلك يُعدّ استغلالًا تحت غطاء القانون.
المتقاعد العسكري… من حمى الوطن، فمن يحميه؟
هذا هو السؤال الجوهري.
المتقاعد العسكري ليس رقما وظيفيًا، بل هو من حمل السلاح، وسهر على أمن هذا الوطن. أفنى سنوات عمره في الخدمة، وجازف بحياته من أجل استقرار البلد، ثم يجد نفسه بعد التقاعد فريسة لعقود إقراض لا ترحم.
في كثير من الحالات، يُطلب منه التوقيع على عقد لا يقرأه جيدًا، أو لا يدرك تبعاته. ويقبل بالشروط لأنه بحاجة للمال، لا لأنه مقتنع بها. ثم يفاجأ بأنه مديون بمبلغ يكاد يساوي ضعف ما استلمه، مع تهديدات بالحجز والتنفيذ والملاحقة.
ما المطلوب؟
أولًا: يجب أن تتحرك الجهات الرقابية فورًا لضبط أداء شركات الإقراض، وتحديد سقوف واضحة لأي أرباح تُفرض على القروض، لا سيما الموجهة لفئة المتقاعدين.
ثانيًا: على السلطة التشريعية أن تدرس إصدار قانون خاص بحماية المتقاعدين من القروض الجائرة، أو تعديل القوانين القائمة لإضافة نصوص تحظر الربح المفرط واستغلال الحاجة.
ثالثًا: إنشاء صندوق دعم وطني يُعنى بتقديم قروض ميسّرة للمتقاعدين العسكريين، بإشراف حكومي مباشر، وبفائدة رمزية أو معدومة، لضمان عدم لجوئهم إلى شركات تتربص بهم.
رابعًا: على القضاء أن يواصل موقفه المتقدم في مراجعة هذه العقود، والتدقيق في مدى مشروعية ما تفرضه من أعباء، خاصة حين يكون المقترض من الفئات المستضعفة.
في الختام:
القضية ليست مجرد دين، وليست مجرد مطالبة بـ900 دينار.
القضية أن هناك من يتربّص بالمتقاعد، لا لشيء إلا لأنه بلا حماية فعلية.
القضية أن من كان ذات يوم سور الوطن، بات بحاجة لمن يقيه شرّ من يستغلّه داخل حدوده.
إن من حمل السلاح دفاعًا عنّا، يستحق أن نحمل قضاياه دفاعًا عنه.
وإن كنا حقًا نؤمن بكرامة الأردني بعد تقاعده، فلا بد أن نبدأ من حماية معاشه من النهب المقنن، وكرامته من الانتهاك تحت مظلة الربح المشروع.
