صدى الشعب – كتب المدعي العام المتقاعد المحامي
محمد عيد الزعبي
العفو العام ليس مجرد إجراء قانوني، بل هو قرار سيادي يمسّ صميم العلاقة بين الدولة ومواطنيها، ويؤثر على ميزان العدالة وأمن المجتمع واستقرار النظام القانوني. وقد يبدو في ظاهره مظهرًا من مظاهر الرحمة، لكنه إن لم يُحسن استخدامه، قد يتحول إلى سكين في خاصرة الدولة، وعدالة مبتورة الأثر.
أولاً: ما هو العفو العام؟
العفو العام هو إسقاط الدولة، بموجب قانون، للعقوبة عن أفعال جرمية ارتُكبت قبل تاريخ معين، بحيث تعتبر وكأنها لم تكن، ويُزال أثرها الجزائي والقانوني، وكأن السجل أصبح نظيفًا.
يختلف العفو العام عن العفو الخاص؛ فبينما يشمل الأول فئة واسعة من الأفراد ويُصدر بقانون من البرلمان، فإن الثاني يُمنح لشخص بعينه بقرار من رئيس الدولة، ولا يمحو الجريمة بل يسقط العقوبة فقط.
ثانياً: دواعي إصدار العفو العام
العفو العام يُطرح غالبًا في ظروف استثنائية، مثل:
أزمات اقتصادية خانقة دفعت لارتكاب مخالفات غير خطيرة.
أخطاء تشريعية سابقة وسوء إدارة منظومة العقوبات.
مبادرات مصالحة وطنية بعد اضطرابات سياسية أو اجتماعية.
ازدحام غير مسبوق في السجون وعدم قدرة الدولة على تحمل الكلفة البشرية والمالية لهذا الاكتظاظ.
ثالثاً: الخطر الكامن في العفو العام
رغم ما يبدو عليه من نبل، إلا أن العفو العام يحمل مخاطر جدية لا يمكن تجاهلها:
- ضرب هيبة الدولة والقانون
عندما تُلغى العقوبات وتُمحى الجرائم، يشعر الناس أن تطبيق القانون اختياري، وأن المجرم قد يُكافأ لا يُعاقب. وهنا تُفقد سلطة الدولة قوتها المعنوية.
- إفلات المجرمين من العقاب
العفو العام قد يشمل من تلطخت أيديهم بجرائم اقتصادية أو اعتداءات على المال العام أو حقوق الناس، فيتحول من وسيلة إنصاف إلى مظلة حماية للمجرمين.
- انتهاك صارخ لحقوق الضحايا
كيف يشعر من سُلب ماله أو كُسر جسده أو هُدّ كيانه النفسي حين يرى المعتدي عليه يخرج حرًّا دون عقاب؟ هنا، العفو لا يكون “تسامحًا”، بل ظلمًا مضاعفًا.
- تشجيع على الجريمة المستقبلية
كلما صدر عفو عام، تتآكل وظيفة الردع العام. فالمجرم المحتمل يبدأ بالحسابات: كم العقوبة؟ وهل هناك فرصة للعفو؟ لتصبح الجريمة مغامرة محسوبة الثمن.
- تهديد مباشر للأمن المجتمعي
العفو عن متهمين بجرائم خطيرة أو منظّمة، كالمخدرات أو السلاح، قد يؤدي إلى عودة هؤلاء إلى مجتمعاتهم بلا رقابة أو تأهيل، ما يفتح الباب لانتكاسات أمنية واجتماعية.
- الاستغلال السياسي للعفو
من أخطر مظاهر العفو العام أن يُستخدم لأغراض سياسية، كترضية فئات معينة أو كسب شعبية انتخابية، فتتحول العدالة من ميزان إلى أداة دعاية.
رابعاً: متى يكون العفو مشروعًا؟
لكي لا يتحول العفو إلى جريمة تشريعية بحد ذاته، لا بد من وضع ضوابط حازمة:
استثناء الجرائم الخطيرة والمرتكبة بحق الدولة أو المجتمع أو المال العام.
الربط بين العفو وإعادة التأهيل أو رد الحقوق للضحايا.
منع شمول المكررين أو من لديهم سوابق ثقيلة.
إلزام الشمول بالعفو بعد تقارير قضائية ومجتمعية مختصة، لا بناء على ضغط الشارع أو رغبة السياسي.
الخلاصة:
العفو العام قد يكون دواءً، لكنه دواء مرّ لا يجب وصفه إلا بعد تشخيص دقيق، فالعدالة التي تُنسى فيها حقوق الضحايا، وتُمحى فيها الجرائم بلا حساب، ليست عدالة، بل وهم قانوني خطير.
فإن أردنا عفوًا عامًا، فلنجعله جزءًا من إصلاح تشريعي شامل، لا مناورة سياسية قصيرة النظر، وليكن ميزان العدالة دائمًا هو الحكم، لا المصلحة ولا الضغوط.