صدى الشعب – المحامي محمد عيد الزعبي
مقدمة
تُعد العلاقة بين القانون الأردني والقانون العشائري من أبرز المسائل الجدلية التي تفرض نفسها على الواقع القانوني والاجتماعي في المملكة الأردنية الهاشمية.
فرغم أن الدولة تقوم على أساس القانون والدستور، إلا أن الأعراف العشائرية لا تزال تمارس حضورًا فعليًا في مجالات متعددة، وتُستخدم كأداة لحل النزاعات، بل وتتقدم في بعض الأحيان على النصوص القانونية، ما يثير إشكاليات تمس سيادة القانون وحقوق الأفراد.
هذا المقال يعرض تحليلاً قانونيًا لهذه العلاقة، ويبيّن الأثر السلبي لتطبيق القانون العشائري على حقوق الإنسان، مسلطًا الضوء على إحدى أخطر أدواته، وهي الجلوة العشائرية، مع طرح رؤية تشريعية لإصلاح هذه الممارسات بما ينسجم مع أحكام الدستور الأردني ومبادئ العدالة.
أولاً: القانون الأردني والقانون العشائري – بين التقنين والعرف
القانون الأردني هو النظام القانوني الرسمي المعتمد في المملكة، ويستند إلى الدستور والقوانين الوضعية، ويهدف إلى حماية الحقوق والحريات وتحقيق المساواة أمام القضاء. أما القانون العشائري فهو منظومة من الأعراف والتقاليد القبلية المتوارثة، التي يتم تطبيقها عبر شيوخ العشائر وكبار الوجهاء، وغالبًا ما تُعتمد لتسوية النزاعات بعيدًا عن القضاء الرسمي.
ورغم أن بعض الأعراف تُسهم أحيانًا في تهدئة النزاعات، إلا أن المشكلة تكمن عندما تحل الأعراف محل القانون، وتُفرض على المواطنين دون أي أساس دستوري أو رقابة قضائية، مما يُنتج عدالة غير متوازنة، تُكرّس الظلم والتمييز وتمنح الأفضلية للجماعة على حساب الفرد.
ثانيًا: أثر تطبيق القانون العشائري على الفرد
إن تطبيق القانون العشائري على الأفراد يؤدي إلى آثار قانونية واجتماعية ونفسية خطيرة، يمكن تلخيصها على النحو الآتي:
المساس بالحريات الفردية: يُجبر الأفراد، وخصوصًا النساء، على الخضوع لقرارات عشائرية لا تستند إلى القانون، بل تفرض عليهم نمط حياة معينًا لا ينسجم مع حقوقهم الدستورية.
التمييز والإقصاء: تذوب شخصية الفرد في مصلحة العشيرة، ويُعامل الناس وفق خلفياتهم العائلية أو القبلية لا وفق شخصهم وأفعالهم.
العقوبات الجماعية: قد يُفرض على أفراد من نفس العائلة أو العشيرة عقوبات كالإجلاء أو النفي، رغم أنهم لم يرتكبوا أي جرم، مما يناقض مبدأ شخصية العقوبة.
الضغط على المجني عليه: في كثير من الحالات، يُمارَس ضغط اجتماعي وعشائري مكثف على المجني عليه أو ذويه للتنازل عن حقهم القانوني، إرضاءً للعادات أو درءًا للفتنة، ما يؤدي إلى ضياع الحقوق وتكريس ثقافة الإفلات من العقاب.
تقويض هيبة القضاء: حين تُحل النزاعات الكبيرة بالعرف، وتُطوى ملفات الجرائم الخطيرة بموجب “صلح عشائري”، فإن ذلك يُضعف ثقة المواطن في القانون، ويُهمش دور الدولة كمصدر وحيد للعدالة.
ثالثًا: الجلوة العشائرية نموذجًا للانتهاك
من بين أبرز مظاهر القانون العشائري التي تمس الحقوق الأساسية للفرد، تبرز الجلوة العشائرية، وهي ممارسة تقضي بإجبار ذوي الجاني، وأحيانًا عشيرته الممتدة، على مغادرة منطقتهم عقب ارتكاب جريمة قتل أو اعتداء جسيم.
ورغم أنها تهدف تقليديًا إلى تهدئة النفوس ومنع الثأر، إلا أن تطبيقها على نطاق واسع ودون ضوابط قانونية يؤدي إلى انتهاكات جسيمة، منها:
العقوبة الجماعية: يتم تهجير أبرياء لمجرد قرابتهم بالجاني، دون أي دور لهم في الجريمة.
انعدام الأساس القانوني: لا يوجد نص قانوني يُجيز الجلوة أو يُنظمها، ما يجعلها ممارسة عرفية مفروضة بقوة المجتمع، لا بقوة القانون.
الحرمان من الحقوق الأساسية: يُمنع المُجلون من العودة إلى مساكنهم، ويحرمون من التعليم والعمل والخدمات الأساسية.
استمرار الأثر: الجلوة قد تمتد لسنوات، دون أي مسوغ، ما يُحولها إلى شكل من أشكال العقوبة الجماعية غير المحددة زمنيًا.
رابعًا: رؤية إصلاحية – نحو تنظيم العرف وفق القانون
من منطلق دستوري وإنساني، فإن استمرار العمل بالجلوة العشائرية بصيغتها الحالية يُمثل خرقًا فاضحًا لحقوق الإنسان، ويستلزم تدخلاً تشريعيًا عاجلاً، من خلال:
- تقنين الأعراف العشائرية بما ينسجم مع الدستور، واعتبارها مكملة للقانون لا بديلاً عنه.
- حصر الجلوة في أضيق نطاق ممكن، وألا تشمل إلا الجاني وذويه المباشرين، ولمدة زمنية محددة، ووفق قرار قضائي خاضع للرقابة.
- ضمان حق المجني عليه وذويه في التقاضي العادل، ومنع أي شكل من أشكال الضغط أو الإكراه عليهم للتنازل أو الصلح القسري.
- منع التهجير القسري للأبرياء تحت غطاء العرف، وتجريم كل من يشارك أو يحرض عليه دون حكم قضائي.
- تعزيز دور الدولة والمؤسسات القانونية في إدارة النزاعات، وضبط تدخل الوجهاء ضمن أطر قانونية وتحت إشراف رسمي.
- تحديث التشريعات ذات الصلة، كقانون منع الجرائم، بما يضمن احترام الأعراف دون المساس بالحقوق.
خاتمة
إن سيادة القانون لا تُقام على أساس المجاملة مع العادات، ولا تُبنى العدالة على حساب الفرد وحقوقه.
القانون الأردني يجب أن يكون المرجعية العليا، ويُفترض أن تخضع له كل الأعراف والممارسات، مهما كان لها من ثقل اجتماعي.
الجلوة، بصيغتها الحالية، ليست حلًا بل مشكلة بحد ذاتها، ويجب أن تتوقف.
والضغط على المجني عليه من أجل ستر الجاني ليس عرفًا، بل ظلمًا مغلفًا بثوب “الوجه الاجتماعي”.
إن العدالة لا تتحقق إلا عندما يكون الإنسان محور القانون، وليس ضحيته.
وإن إصلاح الأعراف لا يقل أهمية عن تطوير القوانين، إذا أردنا لمجتمعنا أن يكون عادلاً، متماسكًا، ومحكومًا بالحق لا بالخوف.