المفرق- صدى الشعب- سامي القاضي
بين أصابع الزمن الذي يسرقُ الذكريات، تُمسك عدسةُ ‘أبو ينال’ بلحظات الأردن الهاربة، لتحولها إلى قصائد من نورٍ وتراب.. سيرةُ وطنٍ تُكتبُ بظلّ سحابة، وعبقِ قهوةٍ في خيمة، ووهجِ شمسٍ تلملمُ أسرار البادية في كتاب.
ففي زحمة متغيرات الحياة التي تبتلعها التكنولوجيا، مُحوِّلةً تفاصيل الهوية إلى ذاكرة باهتة، وطَامِسَةً معالم التراث تحت وطأة الحداثة، ينهض المصور، والمُدون الفوتوغرافي الأردني أكرم شرف الخالدي حارسًا أمينًا للذاكرة الجَمعية، بعينٍ تلتقط نبض الأرض وأنفاس الإنسان، يحوِّل عبر عدسته اللحظات الهاربة إلى إرث مَحفور في سجل الأجيال.
فمن أعماق البادية الشمالية الغربية، حيث تتنفس قرية الحمراء قصص الأجداد، سَطَّر الباحث والمدوّن الفوتوغرافي على مدى سنوات إرثًا بصريًا ضمَّ أكثر من 17 ألف صورة، تُجسِّد تفاصيل العيش بكل تناقضاته وجمالياته. اليوم، يخطو نحو تتويج رحلته بإصدار كتابه المصور الأول “المفرق.. شامة على خَد الصحراء”، ليسجلَ بِصَمتهِ البصري إعلانَ حبٍّ لوطن يَعبقُ تاريخًا، ولأناسٍ نَقشوا الحياةَ بصَبر وأمل.
“فمن البادية إلى المدن.. تلتقط عدسته روح المكان، فلم تكن رحلة الخالدي مجرد تسجيل للمشاهد، بل كانت مغامرة استكشافية في قلب الجغرافيا والتاريخ، ويقول الخالدي “لصدى الشعب” أنه بدأ شغفه بالتصوير منذ عقود، حين لاحظ تدريجيًّا اختفاء ملامح الحياة التقليدية في البادية الأردنية، وتحول المشهد الحضري بفعل العمران الحديث، معبرًا أن “كنت أشعر أننا نفقد شيئًا ثمينًا كل يوم، فقررت أن أكون شاهدًا على ما تبقى”.
ففي رحلته البصرية التي امتدت عبر صحاري الزمن، نسج أكرم الخالدي بسِيَرِ عدسته لوحاتٍ تجسّد تنوُّعَ الأردنّ بتناقضاته الساحرة، لم تكتفِ عدسته باصطياد ذهب الكثبان الرملية في البادية الشرقية، ولا بتعاقُب ألوان الغروب على جدران وادي رمّ الشاهقة، بل غاصت في تشكيلات صخور الأزرق التي تحمل بصمات الدهور، ومن قلاع المفرق الشامخة كحُماة التاريخ، إلى قصور البادية التي تُهمس بأسرار القوافل، رصدت كاميرته التفاصيل المعمارية كأنها حروفٌ منقوشة في كتاب الحضارات.
لم تكن الصور مجرد توثيق، بل حكايات مرئية، لأباريق القهوة المُعتّقة برائحة الكرم البدوي، أسواق القرى التي تعبق بروائح الأرض البِكر، ألوان الأعياد الوطنية وهي تلبس ثوب الفرح، وصمت الخيام الأسمنتية في المخيمات التي تحاكي بؤسها جمالية البيوت الطينية بلمساتها الترابية.
ويروي الخالدي مغامرته بصوته الهادئ، “كان تحدّيًا فرديًّا بلا ظِلّ مؤسسة تدعمه”، مؤكدًا أن ضخامة الأرشيف البالغ 17 ألف صورة لم تثنه عن المضي في دربٍ وعِر، مشددًا أن “لكن إصرارًا أشبه بجذور الشجرة التي تشق الصخر كتب نهايتي”.
ويكشف المصوّر عن رسائل خفية في مشروعه، مثل تحوُّلات الطبيعة تحت وطأة التصحُّر والخرسانة، حيث أعاد تصوير المواقع مرارًا كشاهد على زحف الحداثة، وصورًا لـ “المنسيّات” كجَرّة الماء المتشققة وحصاد الزيتون التي يراها البعض عاديّة، بينما هي في عينه “أبجديات الهُوية التي تذوب يومًا بعد يوم”.
أما كتابه المنتظر “شامة على خد الصحراء”، فينحت من أرشيفه 500 لقطة كجوهراتٍ بصرية، مرفقة بشروح ثنائية اللغة، ليكون جسرًا بين الأجيال ومرآةً للباحثين والسياح، ويُخصّص فصلًا كاملًا لمحافظة المفرق كبوابة التاريخ، حيث تلتقي قوافل الحجاج بآثار سكة الحديد، وتتلاقح ثقافة البداوة مع حكايات الأرض الزراعية، ولا ينسى أن يضمّن الكتاب سماء الأردن الصافية التي “تتسابق فيها النجوم كفرسان”، وصنّاع الحِرف اليدوية الذين “يحملون إبرة الزمن ليرتقوا ثوب التراث الممزق”، كما أشار الخالدي.
وتلقى تفاعل الجمهور مع المشروع والذي جاء كموجةٍ متباينة، بين داعمٍ متحمسٍّ على منصات التواصل بعد معرضه المصغّر، ومتشككٍ ينتظر اكتمال اللوحة، ويُجمع مراقبون على أن هذا العمل يُعيد تعريف الأردنيين بأرضهم في زمنٍ تندر فيه التوثيقات التلقائية للحياة اليومية.
ورغم التحديات، يُصرّ الخالدي على إكمال المسيرة “أبحث عن ناشرٍ يُمسك بالمشعل دون أن يُطفئ لهيبه التجاري”، وموضحًا أنه يعمل منذ سنوات طويلة، وبجهد شخصي دون أي دعم رسمي أو خاص، ففي عصر تطغى عليه الصور العابرة على “إنستغرام” “وفيسبوك”، يبقى مشروع الخالدي شاهدًا على الجمال الخفي.
