فايز الشاقلدي – صدى الشعب –
لبس درع القيم الأنسانية، وارتبط اسمه في تغطية الأخبار الدائرة في فلسطين وبالذات في قطاع غزة .. تعايش مع أهله وتحسس معاناتهم وظل ملتصقا بهمومهم ، حتى تربع على عرش الصبر والقوة في زمن الأنكسار والوجع والخذلان، فصار الصحفي والإعلامي وائل الدحدوح رمزا للصمود في غزة الصابرة والمناضلة ، وتكررت مشاهد الحزن بداخله ، فكانت كلمته للاحتلال تجاه زوجته التي فجع فيها بعد أن استهدفتها صواريخ الغدر مع أفراد من عائلته .. “معلش” .
رغم الصفعات والضربات الموجعة المتتالية , من اغتيالات واستهدافات طالت رقاب عائلة الدحدوح إلا أنه ابى أن يخلع عباءة الصحافة , بل أصر على حمل رسالتها السامية ينقل هموم شعبه الذي يتعرض إلى إبادة جماعية في غزة، بأن تكون بنكهة خاصة ملتصقة بالمقاومة والمثابرة معتقة برائحة الثأئر المثابر.
وحتى تكتمل فصول ملحمته الكفاحية في الصحافة الميدانية , دفع الدحدوح ثمنا كبيرا لما تناوله قلمه وصوته في نقل الأحداث .. حيث كانت “معلش” .. عقب استهداف عائلته قالها … وهو يشد على أسنانه الأمامية ويضغط عليها كمدا وألما وغيظا وحزنا على فراق ولده الأصغر، الذي تمنى يوما أن يكون صحفيا؛ ينقل الحقيقة كما يفعل والده ويكون صوتا لفلسطين وأهلها كما تعود أن يرى أباه.
بينتقموا منا بالأولاد … معلش .. قالها الدحدوح ليسجل بها مدلولا جديدا خارجا عن المألوف لهذه الكلمة، التي لاعلاقه لها بتحولات الايقونات في بعض النقاشات وأثناء الحديث المحتدم في عالم عربي ضاق بالرأي الأخر، حيث تستخدم لمدلولات بين الناس لتطيب الخاطر أو ابداء الدعم والمساندة للأخرين في آلامهم وأزماتهم ومشاكهلم , ثم تحولت الى طريقة للسخرية من بعض الآراء المخالفة أثناء النقاش , ليأتي الدحدوح ويغيرمفاهم كثيرة حولها إلى لفظة يعبر فيها عن قمة الصبرفي لحظة المصيبة الأولى , وذروة الثبات أمام زلزال خسارة الزوجة والأبناء , وسنام الصمود أمام أقسى لحظات الهزيمة .
“معلش” … لن نسمعها بعد الأن الا بصوت وائل الدحدوح ولن نقولها الا كما قالها وائل .. سنعلمها لأطفالنا أجيال الأمة القادمة للتمسك بالصبر والصمود والمثابرة .
لن أنسى صوته .. انهار البرج .. سمعتها بصوتك الباكي الذي اختنق بعبراتك الصادقة وأنت تبكي برج قناة الجزيرة في القطاع المحاصر غزة هاشم , انهار البرج يومها يا وائل وبقيت أنت شامخا كشموخ الجبال , وستبقى كذلك جبلا من جبال الصحافة الصادقة لن يكسروا ارادتك وعزيمتك ولن يستطيعوا تغير بوصلتك الواضحة .
بعد استشهاد زوجته وأبنائه ، خرج (الدحدود) بعد ساعات من على الهواء مباشرة ليستكمل رسالته الاعلامية ويمارس عمله الصحفي المهني في نقل الحقيقة التي أراد الاحتلال اللعين أن يغيبها ولكن هيهات ..يا وائل .
“هذا دورنا وهذه رسالتنا ويجب أن تستمر” .. بهذه العبارات لخص الدحدوح رسالة الصحفي والاعلامي الذي يحمل أمانة نقل الوقائع والاحداث والحقيقة , ويدفع من أجلها ثمنا يصل الى حياته وحياة عائلته ولكن ماذا عن الانسان الذي يعيش بداخل هذا الصحفي والاعلامي ؟
لم يكن وجه وائل الدحدوح بحاجة ليزداد شحوبا ووجعا وهو الذي ظل منذ بدء الحرب الأخيرة على غزة “طوفان الأقصى” يلاحق الأحداث لحظة بلحظة على أمل أن يهز ما ينقله شيئا ما في ضمير العالم، فيما تحكي ملامح وجهه ما لا يحكيه لسانه عن تعبه وسهره وهول الموت ورائحته في كل مكان، وخوفه على عائلته وأبنائه .
فقدان الدحدوح للعديد من أفراد عائلته بينهم زوجته وابنه وابنته وحفيده الرضيع , يعد مشهدا بين مشاهد ألم ووجع وصدمة لا تحصى ولا تعد في القطاع المحاصر ,لكن الدحدود أعاد “اسرائيل” لتتصدر الإجرام العالمي من جديد، ويثبت سياستها البائسة الارهابية في إخفاء صوت الحق .
ولادة ونشأة الدحدوح
في عام 1970 , وفي صبيحة الثلاثين من نيسان , كان حي الزيتون أقدم أحياء مدينة غزة على موعد مع ولادة أيوب الصحافة ومطرقتها (وائل حمدان الدحدوح ) ,حيث علت الاهازيج والزغاريت فرحا وابتهاجا بقدوم وائل، الذي نشأ وترعرع طفلا وصبيا في كنف أسرة غزية مقاومة صبورة ممتدة ميسورة الحال أصولها من شبه الجزيرة العربية، تعتاش من الفلاحة والعمل في زراعة وحصد الأرض , أما عن شبابه فقضى سبعة أعوام منها داخل سجون الأحتلال الاسرائيلي بعد حصولة على شهادة الثانوية العامة عام 1988 .
بدأ ( الدحدوح ) رحلة تحقيق حلمه في مدارس مدينة غزة في جميع المراحله التعليمة من الابتدائية وصولا للثانوية .. كما حصل على شهادة الثانوية وهو في سجون الاحتلال الاسرائيلي ,بعد اعتقاله ما يقارب سبعة سنوات ، بدأ حياته المهنية مراسلا لصحيفة القدس الفلسطينية ، وعمل لصالح وسائل اعلام أخرى قبل أن يلتحق بقناة الجزيرة عام 2004.
وكان الدحدودح شديد الحرص على العلم والتعلم حيث التحق بجامعة الأزهر في غزة , وحصل منها على درجة البكالوريوس في الصحافة والاعلام عام 1992، بعد أن منعه الاحتلال من السفر للدراسة في الخارج , وحصل على درجة الماجستير في الدراسات الاقليمية من جامعة القدس أبو ديس عام 2007 , وبعد مسيره تكللت بالانجازات في صحيفة القدس الفلسطينية , انتقل للعمل لصالح وكالة الانباء الفلسطينية ( وفا ) , وقناة الاقصى الفضائية .
في تلك الفترة وفي عام 2004 انتقل للعمل في قناة الجزيرة مراسلا ميدانيا في قطاع غزة , وخلال عمله في القناة غطى وائل العديد من الاحداث السياسية والعسكرية العامة داخل فلسطين المحتلة , بما في ذلك حروب القطاع وانتفاضة الأقصى وثورة الربيع العربي .
وخلال فترة الحراك وعمله تعرض الدحدوح للاعتقال عدة مرات حيث قضى سبع سنوات في سجون الاحتلال بين عامي 2004 و 2011, تعرض خلالها للتعذيب والتحقيق القاسي والقضائي .
بعد اطلاق سراحه من السجون , عاد الدحدوح للعمل في قناة الجزيرة , حيث استمر في تغطية الأخبار والأحداث الجارية في فلسطين عام 2022 .
برز اسمه من خلال نجاحه في تغطية الاجتياحات الإسرائيلية المتكررة للقطاع، ومتابعة عمليات اغتيال إسرائيل للشخصيات الفلسطينية البارزة وعلى رأسهم الشيخ أحمد ياسين( مؤسس حركة حماس)، وقادة عسكريين من الأذرع العسكرية الفلسطينية من بينهم شقيقه وعدد كبير من أقاربه. غطَّى إلى جانب رفاقه تداعيات الانقسام الفلسطيني الداخلي، كما كانت له بصمة في تغطيات الأحداث عبر شاشة قناة الجزيرة، من بينها الحصار الإسرائيلي المستمر على القطاع وتأثيره على الجوانب الحياتية للناس، والقوافل التضامنية البحرية والبرية وما تبعها من هدم واقتحام للحدود المصرية مع القطاع، ولقاؤه الشهير آنذاك بزميله من القاهرة سمير عمر في ختام تقرير مشترك.
نجح الدحدوح في قيادة فريق الجزيرة خلال تغطية الحرب الإسرائيلية الأولى على قطاع غزة كأولى التجارب الإعلامية الحربية عام 2008-2009 وما بعدها، وكذلك خلال الحرب الثانية عام 2012. لكن التغطية الأكثر تعقيدًا كانت في الحرب الثالثة عام 2014 التي استمرَّت 51 يومًا، وما بعدها من حلقات سميت بـ «غزة تنتصر».
أنتج حلقات لبرامج عدة في قناة الجزيرة وفيلمًا عن أنفاق المقاومة في غزة، وآخر عن عمليات المقاومة خلف خطوط جيش الاحتلال الإسرائيلي خلال حرب عام 2014، وهو «المجموعة رقم 9»، عمل وائل كذلك مراسلًا ومسؤولًا تحريريًا في تغطية مناسك الحج والعمرة عام 2011، وكان صاحب أول تقرير على الهواء مباشرة في أولى حلقات البرنامج الجديد آنذاك «الجزيرة هذا المساء» وذلك من بلدة بيت حانون خلال تعرضها لاجتياح إسرائيلي
الاجتياح والاستداف
كان وائل الدحدوح يوم 25 تشرين الأول/أكتوبر 2023 يُغطّي ما يجري في قطاع غزة من غارات جوية إسرائيليّة مكثفة واستهدافٍ متعمّد للمنازل السكنية والشقق والأبراج كما يفعل منذ 19 يومًا على التوالي بصفته مراسلًا لقناة الجزيرة من أرضِ الميدان غطَّى ويُغطِّي عملية طوفان الأقصى وما تلاها من حربٍ بين فصائل المقاومة وجيش الاحتلال الإسرائيلي.
خلال بثٍ مباشر مع القناة القطريّة قُبيل الثامنة مساءً بقليل (توقيت فلسطين) وفي غمرة حديث وائل مع صحفي الجزيرة عبد السلام فارح تلقى مكالمة هاتفيّة تُفيد بأنّ المنزل الذي نزحت له أسرته في مخيم النصيرات قد تعرّض لقصفٍ إسرائيلي ما دفعَ وائل للانسحابِ من البثّ وهرعَ مسرعًا لعينِ المكان ليكتشف أنّ الغارة الجوية الإسرائيليّة طالت المنزل الذي كانت تُقيم فيه أسرته وبرفقتها أسرة ثانيّة في منزل قريب وهي أسرة عوض.
حاول الدفاع المدني التعامل مع ضحايا القصف حيث نجحَ في انتشالِ بعض الفلسطينيين على قيد الحياة فيما أُخرجَ آخرون ليلتحقوا بقوافل الشهداء بسببِ الاستهداف الإسرائيلي.
تبيَّن أن هذه الغارة الجوية طالت منزلًا يقعُ في منطقة تبعد عن شمال غزة أساسًا وهي المنطقة التي طلب جيش الاحتلال الانسحاب منها، حيث يقعُ مخيم النصيرات في جنوب وادي غزة ضمنَ المنطقة الآمنة كما زعمَ جيش الاحتلال في بياناته السابقة والتي دفعَ الفلسطينيين نحو النزوح لها قسرًا، وأظهرت مقاطع فيديو مصوَّرة اللحظات الأولى التي تلقّى فيها وائل خبر الاغتيال الإسرائيلي لعددٍ من أفراد أسرته والتأثر والحزن يطغى عليه وهو يقول: «بنتقموا منا بالأولاد؟ دموعنا دموع إنسانية وليست دموع جبن وانهيار، فليخسأ جيش الاحتلال” تقدّمت شبكة الجزيرة الإعلامية بخالص العزاء وعظيم المواساة لوائل الدحدوح بعد الاغتيالِ الإسرائيلي لأفراد من عائلته، كما أدانت وبشدة «الاستهداف وقتل المدنين الأبرياء في غزة الذي أدى لاستشهاد أفراد من عائلة الدحدوح وعدد كبير من الضحايا الآخرين» مطالبةً المجتمع الدولي بالتدخل العاجل لوضع حد للهجمات الهمجية ومحمّلةً السلطات الإسرائيلية مسؤولية سلامة مراسلي الشبكة وطواقمها في غزة.
قبل ساعاتٍ قليلةٍ من هذه المجزرة في حقّ عائلتي الدحدوح وعوض سرَّبت أكسيوس خبرًا حول طلب وزير الخارجية الأمريكي أنطوني بلينكن من رئيس الوزراء القطري محمد بن عبد الرحمن آل ثاني «تخفيف حدة خطاب الجزيرة» حول عملية طوفان الأقصى وما تلاه من غارات جويّة عشوائية لم تتوقف على القطاع.
كانَ لافتًا عدم إنكار جيش الاحتلال الإسرائيلي جريمة اغتيال أفراد عائلة الصحفي الفلسطيني وهو الذي اغتالَ خلال هذه الحرب ما لا يقلُّ عن 110 صحفيًا حتى اللحظة, وفي حالة عائة الدحدوح، فإنّ الجيش الإسرائيلي لم ينفِ لكنّه في نفس الوقت لم يعترف بشكل مباشر بل أخطرَ مسؤولٌ في الجيش شبكة( سي إن إن) الأمريكيّة شنّهم لغارة جوية في أحدِ المناطق من مدينة غزة وخلالها قُتل أفراد من عائلة صحفي الجزيرة .
الجوائز والانجازات
نال الدحدوح خلال مسيرته المهنية والاعلامية العديد من الجوائز الذي ينظر اليها على أساس معنوي وليس مادي، فهو يشعر بالفرح أن هناك جهة معينة قدرت جهوده، ومن أبرز الجوائز وفي الشهر الخامس من عام 2013 ، حصوله على جائزة التغطية المتميزة في مهرجان الاعلام الدولي في لندن، وجائزة “السرايا الحمراء لصحافة السلام”، من ليبيا، تقديرًا لدوره في تغطية الحرب على غزة ، كما منح جائزة “حرية الصحافة” للعام 2024 من نقابة الصحفيين المصريين، باعتباره “رمزا لصمود الصحفيين الفلسطينيين في وجه العدوان الصهيوني الغاشم وآلة حربه الوحشية” ، كما تبرعت العين في مجلس الأعيان الأردني بمنحة دراسية باسم الصحفي وائل الدحدوح لدراسة الاعلام تقديرا للدور الذي قام به في تغطية العدوان الصهيوني على غزة.
التكريم الحقيقي لوائل الدحدود من الشعب العربي الذي اعتبره رمزا للصحفي الشجاع، حيث أصبحت الهتافات باسمه بين الجماهير في ملاعب كرة القدم تصدح، وأقيمت له جدارية في عدد من العواصم والمدن العربية.
انسانية الدحدوح
يمتلك وائل حلما أخر،وهو تقديم الخير والمعروف للأخرين .. ولوحظ أنه يعمل على هذا من خلال مهنته ؛ فهو مدير ومدرب في كادر شبكة الجزيرة ، حيث ينقل خبراته ونصائحه الصحفية للمتدربين , كما أنه درب العديد من الصحفيين في مجال “المراسل الميداني ” .
وعلى الرغم من صعوبة مهنة الصحافة وما تعرض له الدحدوح الا أنه لم يفكر يوما في تركها، ولو عاد به الزمن سوف يختارها مرة أخرى .
الميدان..اعداد البرامج ..التحقيات المصورة .. أقرب الفنون الصحفية الى الدحدوح ، لانها جميعها تجمع ما بين التحدي والجرأة .. ونقل الحقيقة بصورة مباشرة ، لذا فان هذه الفنون تناسب شخصية الدحدوح الصريحة والمحب للخير .
ويرى الجبل الشامخ والمبدع وائل الدحدود أن هناك علاقة تبادلية بين شخصية الصحفي وبين مهنتة، بألا يتقبل الظلم والاستبداد والقهر، وأن يدافع عن حقوق الآخرين ويتبنى قضايا صحفية دفاعا عن الاراضي المحتلة ، وألا يفصل الصحفي نفسه عن المجتمع ومشاكله التي يعيش بداخلها.