لا أعتقد أنّ ممثلاً يمكن أن يتقن دور “ريموند ريدنغتون” كما أتقنه “جيمس سبيدر” في الشخصية العبقرية التي تناولتها أحداث سلسلة “بلاك ليست” أو “القائمة السوداء”.
تتمحور أحداث المسلسل الأميركي حول شخصية “ريموند”، أخطر مطلوب في العالم والمطارد من قبل أغلب أجهزة المخابرات الدولية إضافة إلى منافسيه في عالم الجريمة المنظمة، والذي يسلم نفسه طوعاً لمكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي (FBI)، طالباً الحصانة القضائية مقابل تسليم أخطر المطلوبين ضمن قائمة سرية غامضة تخدم أهدافه.
يجمع “جيمس سبيدر” بتعابير وجهه الجدّية والغموض بحس الفكاهة الذي يلازم أغلب حلقات المسلسل مع شخصيات طريفة متقنة تخدم الفكرة الرئيسية، فيصبح العمل غير ممل رغم تعقد الأحداث والمواقف.
يظهر “ريدنغتون” بزيه الكلاسيكي و”قبعة تشرشل” بصورة الموسوعة المثقف الملم بالفن والسياسة والتاريخ، بحكم الخبرة التي كونها نتيجة سفره الطويل والأماكن التي زارها والشخصيات التي التقى بها، وهي صورة تخالف ما هو سائد عن مسؤولي العصابات والمنظمات الإجرامية.
كما أنّه يخفي خلف شخصيته الدموية جانباً آخر يبدو معقداً جداً، فيحب الموسيقى والسينما الكلاسيكية واقتناء اللوحات والتحف الثمينة والطهي وتراث وحكايا الشعوبـ، ويمكن أن يتحول فجأة لـ”روبن هود” أو مدافعاً عن مظلومين عبر قتل من ظلمهم، على الرغم من ممارسته الظلم البشع، ليظهر كيّالاً بمكيالين أو قاتلاً رحيماً.
تكمن عقدة المسلسل في طريقة معرفته بتفاصيل الأحداث التي تجري حول العالم، وفي شبكة معقدة من العلاقات الشخصية مع مسؤولين ومجرمين ورؤساء دول والتي تكشف عن حجم الصراع الكبير بشأن المصالح والأيديولوجيا وتقاسم الثروات، واستعباد البشر وتكريس “الميكافيلية” التي تتجلى عبر “الغاية تبرر الوسيلة”، والتي تنكسر أمامها الإنسانية وتُسوّد القوي وتجعله قادراً متمكناً.
يفضح المسلسل حجم تواطؤ الأنظمة السياسية والحكومات العالمية مع الجريمة المنظمة وصناعة الإرهاب والمستبدين، ويضح كيف يمكن أن يكون السياسي قاتلاً وفاسداً ومتستراً على الجرائم وصانعاً لها، ومحكوماً في نفس الوقت بشبكة هرمية من حجم القوى المتصارعة، بحيث لا يكون هنالك شخص هو الأقوى بل القوة لـ”المنظمة السرية” التي يلازم الغموض تأسيسها حتى في جميع مواسم المسلسل (8 أجزاء) بهدف التشويق.
تكمن عقدة “ريموند” الأساسية في محاولة إخفاء هويته عن عميلة مكتب التحقيقات “إليزابيث كين” والتي أدخلها في حياته رغماً عنها، بهدف حمايتها من الخطر المحدق بها، ثم يترك لأطراف العمل اكتشافها عبر تفاصيل ومعطيات تقوم على فك أسماء “القائمة السوداء”، وصولاً إلى فتح ألغاز أكبر تعبر عن حجم الكارثة التي يعيشها العالم جراء الصراع بين الدول الكبرى وأجهزة المخابرات العالمية، إضافة إلى توظيف المنظمات الإجرامية والإرهابية في خدمة مصالحها بعكس الإدعاء القائل إنها تحاربها.
يُقدم العمل بشكل لافت شخصية “ديمبي زوما” المتناقضة والتي يؤديها الممثل الأميركي هشام توفيق، بوصفه مرافقاً شخصياً للمطلوب الأول في العالم والذي انتشله من عصابة اتجار في البشر من أفريقيا وقام بتربيته ورعايته.
لكن المفارقة أنه مُسلم ملتزم دينياً كما يظهره العمل ويؤدي فروضه الدينية كاملة ويحافظ على الصلاة في المسجد، ويرفض كثيراً من أعمال “ريموند” لكنه لا يستطيع أن يوقفها، كما أنه يشارك في مسلسل القتل الذي لا يتوقف.
يكشف المسلسل من خلال عقلية كاتبه البارعة “جون بوكينكامب” بوصفه ملماً بتفاصيل ما يحدث في العالم عن طرق بشعة في الاغتيالات السياسية للخصوم وعن طريقة صناعتهم، وتنصيب رؤساء الدول والانقلاب عليهم وإشعال الحروب وتجارة السلاح والتستر على فساد المسؤولين.
في “القائمة السوداء”… حتى رؤساء الدول الكبرى بمن فيها الولايات المتحدة وروسيا يخضعون للابتزاز والتهديد ويتم إدارتهم من قبل “المنظمة السرية” بل إنه يمكن أن يكونوا هم أعضاء فيها.
يطرح “بلاك ليست” فكرة جهاز الاستخبارات العالمي، الذي يتجاوز الأجهزة التقليدية في الدول بحيث تكون الأخيرة تابعة له، ما يجعله يتحكم في 7 مليارات إنسان بوصفهم سجناء في محاولة منه لإفهامنا حقيقة ما يجري في واقعنا وإن بقالب فني درامي هو الأكثر براعة برأيي.
جميع أحداث المسلسل مستوحاة من أحداث حقيقية وخصوصاً السياسية منها بما فيها الإرهاب والجريمة المنظمة وغسيل الأموال والمخدرات والإتجار بالبشر، مروراً بالإسلام السياسي والإسلاموفوبيا في الغرب وصعود اليمين المتطرف.
كما أنه يحاكي ثورة العملات الرقمية المشفرة ومستقبلها، وطبيعة الحروب البشرية القادمة وتحديداً البيولوجية، إلى جانب مستقبل الشعوب المرهون بفئة محدودة من الأشخاص والتي تقرر متى يمكن أن تبدأ حياة إنسان ومتى تنتهي.
المسلسل أكثر من واقعي ورغم الخيال الواسع والطريقة الدرامية في معالجة الأحداث، إلا أنه يحتمل الإسقاط على ما يحدث في عالمنا اليوم.. وما خفي أعظم.