سلسلة في آخر الأسبوع خاطرة
اعذروا فلان
د. ميرفت سرحان
في إحدى جلسات السمر مع جدتي – رحمها الله – ذات مرة .. والتي كانت تحدثني فيها عن حكايا أيام زمان، وعن طبيعة حياة الناس حينها .. وردت سيرة فلان، وأذكر أنني قلت لها: (يا ستي هذا واحد متكبر وشايف حاله، وهو ليش ما بحكي مع حدا) فحدثتني حينها عن مدى المعاناة التي يعيشها من مرض زوجته، وضيق حالته المادية، وغيرها .. ما جعلني عندها أشعر بالدهشة ولم أستطع اخفاء استغرابي، حيث قلت لها: (بس يا ستي مش مبين عليه انه مهموم، وعنده مشاكل!!). فقالت جدتي: (يا ستي بواب مغْلَئه وهموم مفرئه) .. “أبواب مغلقة، على هموم متفرقة”.. وكانت -رحمها الله- تقصد أن في كل منزل ما يكفيه من الهموم والمتاعب .. فإن كانت جدران المنزل وأبوابه المغلقة تخفي هذه الهموم فهذا لايعني أنها غير موجودة ..
رحمك الله يا جدتي فهذا بلغة العلم يعني أنك إن لم ترَ الشيء فهذا لا يلغي وجوده ..
آه يا جدتي لو كنت لا تزالين على قيد الحياة.. وكانت جلساتنا لاتزال موجودة كنت أخبرتك حينها: (يا ستي جسام مزيونة وآهات مكتومة)
وأقصد بها يا (ستي) أن الآهات والآلام والأوجاع لم تعد مخفية في المنازل وخلف الجدران فقط .. بل أصبح كلٌ منا يحمل همومه وأوجاعه معه، ويمشي بها حيث ذهب .. فكم من ابتساماتٍ تكتم برسمتها آهاتٍ وآهات .. وكم من العيون أغمضت على دموع وأحزان .. وكم من أوجاع وألام تكاد لا تحملها الاقدام .. وكم .. وكم .. أما يا جدتي خلف الأجسام فقصص وحكايا مؤلمة وكأنها من نسج الخيال .. ولأننا يا جدتي لا نرى داخل الجسم، نحسب أنه لا يحمل شيئًا في داخله، فلا نعذر صاحبه ..
فإن لم يضحك فلان في وجهنا .. غضبنا منه .. مع أنه قد يكون خرج باكيًا من منزله ..
وإن كانت ثياب فلان تبدو رَثّة أو غير مناسبة .. ضحكنا منه .. وهو ربما اختارها لتخفي مرضًا أو عيبًا خُلقيا خلفها ..
وإن كانت قصة شعر فلان لا تناسب ذوقنا .. انتقدناه .. ولعله اضطر لها لألم ما حلّ في رأسه ..
وإن لم يتصل بنا أو يراسلنا فلان، أو لم يجب على اتصالنا .. خاصمناه .. ويحتمل أنه يعاني من مشكلة ما في بيته، مع زوجه، أو والدته، أو ابنه، أو .. أو ..
وإن مشى بطريقة برأينا غريبة .. استهزأنا به .. وهو يعاني من مشكلة في ساقه ..
وإن .. وإن .. وإن ..
تمنيت يا جدتي لو أنك موجودة لتقولي لأحفادك: اعذروا فلان ..قد يكون لديه قريب مريض .. اعذروا فلان ففي بيته مشكلة .. اعذروه ربما يعاني من مصيبة .. أو قد خسر ماله .. اعذروه يبدو أن ابنه أتعبه .. ولعله على خلاف مع أهله .. اعذروا فلان عساه مرهق أو متعب .. ربما لم ينم طوال ليله .. أو على الأقل لربما استيقظ من نومه ومزاجه متكدر ..
أخبريهم يا جدتي أن عدم معرفتنا لهموم فلان لا تعني أنها غير موجودة ..
وذكريهم: ليس بالضرورة أن يذكر لنا فلانٌ أسبابه حتى نعذره .. فقد يكون محرج من طبيعة مشكلته .. وربما يتورط إن أخبرنا بمعضلته .. أو أنه ببساطة لا يرغب في اشراكنا همه، فهذه أسراره وهذا حقه ..
ثم حدثيهم يا جدتي اننا جميعنا لدينا همومًا ومشاكل .. ومن منا يا جدتي خالي الفكر ومرتاح البال .. ومن منا لا تتغير لديه الأحوال. لذا نبهيهم: لا تطلقوا لخيالكم نحو بعضكم العنان .. وتتسرعوا في توجيه أصابع الاتهام وإصدار الأحكام .. واتخاذ القرار بالقطيعة والهجران أو المشاحنة والخصام .. فكل منا يا أحفادي في وقت ما بحاجة لأن يعذره فلان .. ومن منا ليس فلان ..