صدى الشعب – كتب المدعي العام المتقاعد المحامي محمد عيد الزعبي
في الوقت الذي تُصارع فيه وسائل الإعلام للوصول إلى الحقيقة بسرعة، وفي ظل سباق محموم على “السكوب”، يظهر من خلف الكواليس لاعبٌ قانوني صامت، لكنه شديد التأثير: المدعي العام، الذي يمتلك في بعض القضايا سلطة “كبح النشر”، وفرض الصمت المؤقت، حماية لسير العدالة.
قرار منع النشر في قضايا الرأي العام ليس ترفًا، بل إجراء قانوني يُتخذ عندما تكون الكلمة أقوى من الرصاصة، وقد تقتل عدالة التحقيق أو تُلهب الشارع.
متى يصدر قرار منع النشر؟
وفق مراجع قانونية، يصدر قرار منع النشر عندما يرى المدعي العام أن النشر قد يؤدي إلى:
التأثير على مجريات التحقيق أو توجيه الرأي العام قبل انتهاء الإجراءات.
تهديد الأمن المجتمعي، كما في قضايا الفتن العشائرية أو الدينية أو الجرائم البشعة.
المساس بخصوصية الضحايا، خاصة في قضايا الاغتصاب أو قضايا القُصّر.
أو عندما تكون القضية من قضايا أمن الدولة أو ذات طابع حساس.
ويُصدر المدعي العام القرار بصيغة رسمية، يُخطر بها وسائل الإعلام، وقد تُنشر علنًا:
“يُمنع النشر في القضية رقم (…) المنظورة لدى النيابة العامة، تحت طائلة المسؤولية القانونية.”
خرق القرار… لا يمر مرور الكرام
مخالفة قرار منع النشر تضع الصحفي أو الوسيلة الإعلامية تحت طائلة المساءلة، التي قد تشمل:
غرامات مالية أو توقيف مؤقت بموجب قانون المطبوعات والنشر.
ملاحقة جزائية بتهمة إفشاء أسرار تحقيق، أو نشر يخلّ بالنظام العام.
تطبيق قانون الجرائم الإلكترونية إذا تم النشر عبر الإنترنت أو منصات التواصل.
جدل مشروع: حماية العدالة أم تكميم للأفواه؟
قرار منع النشر، ورغم مشروعيته القانونية، يُثير بين الحين والآخر جدلًا حول العلاقة بين حرية الإعلام وسلامة الإجراءات القضائية.
ففي حين يرى المدافعون عنه أنه ضرورة لحماية التحقيق وحقوق الضحايا، يعتبره البعض الآخر سيفًا مُسلّطًا على رقبة الصحافة.
لكن الفارق الجوهري يكمن في أن المنع مؤقت، وليس تقييدًا دائمًا. فبمجرد اكتمال التحقيق أو زوال الخطر، يُستأنف النشر بحرية.
رأي قانوني
قرار منع النشر هو أداة قانونية دقيقة، لا ينبغي التعامل معها على أنها انتقاص من حرية الإعلام، بل كإجراء تحفظي مشروع لحماية حق الأفراد في محاكمة عادلة، وحق المجتمع في أمن مستقر.
فإذا كان الإعلام مسؤولًا عن كشف الحقيقة، فإن العدالة معنية بتثبيتها، وهذا لا يتحقق إذا تحولت وسائل النشر إلى منصة لإطلاق الأحكام المسبقة أو التلاعب بعقول الناس.
إننا بحاجة دائمة إلى تحقيق توازن دقيق بين حرية التعبير وسرية التحقيق، وهذا لا يتم إلا بتشريعات واضحة، وتطبيق نزيه، وصحافة تدرك أن الكلمة قد تُنقذ، ولكنها أحيانًا قد تُخرّب.
ختاماً
في ميزان العدالة، أحيانًا يكون الصمت أصدق من الكلمة.
قرار “منع النشر” ليس قيدًا عبثيًا، بل صمام أمان لضمان محاكمة عادلة، وتحقيق نزيه، ومجتمع لا يُقاد بالإشاعة بل بالحقيقة.
والمعادلة دائمًا تبقى: حرية مسؤولة، وعدالة محمية.