صدى الشعب – كتب أثير الهاشمي
يكتب الشاعر محمود درويش لغته الشعرية وفق وعيٍ كبير، وفكرٍ متين، يحاول أن يُكسب النصّ رؤية مُغايرة في الطرح، ومختلفة في الطريقة، ومؤثرة في الأداء، وبالتالي فهو يُعطي للمتلقي مساحة من التأمل في القراءة، والتحليل، والرؤية، في فهم النصّ على ما رآه لا على ما كتبه الشاعر نفسه، فيكون القارئ مُنتجاً آخر في تفكيك الفكرة، وإعادة إنتاجها من جديد.
تتجلّى لغة محمود درويش في اكتساب الألفاظ معاني مفعمة بالرمزية، وخالصة في الإيحاء، ومتزنة في الأداء، فيكون النصّ ذا دلالات جليّة في محتواها، ورمزيتها:
ماذا وراء السور؟ علّم آدَم الأسماءَ كي يتَفتح السر الكبيرُ
والسرُّ رحلتنا إلى السريَّ. إنّ الناسَ طيرٌ لا تطيرُ
أنا هُدْهُدٌ ـ قال الدليل ـ وتَحْتَنا طوفان نوحٍ. بابلُ
أشلاء يابسةٍ. بُخارٌ من نداءات الشعوب على المياه. هياكلُ
ونهايةٌ كبدايةٍ كبدايةٍ لنهايةٍ
تتنفّس الألفاظ هنا معاني مفعمة بالحيوية، والشاعر يُدرك ما يكتب، وما يُشير إليه من مضامين، خاصة عندما يُعطي للنص تماسكاً من خلال المرجعيات الثقافية التي يُضمّنها في النص، كالمضمون الديني مثلاً، في العودة إلى استحضار قصة آدم عليه السلام، كما في قولهِ تعالى (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا )، ومن ثم يربط معانيها بقصة (الهدهد) و(طوفان نوح)، فضلاً عن رمزية مدينة بابل تاريخياً، وما تحتويها من رمزيات بوصفها المدينة الأقدم، زمناً وحضارة.
قدّم الشاعر درويش أفكاره بنكهة التاريخ، حتى في فلسفتهِ التي خطّها بعناية تامة، ورؤى متناسقة، فجعل من النهايات بداية، والعكس في البداية تشكّلت النهايات: (ونهايةٌ كبدايةٍ كبدايةٍ لنهايةٍ). استحضر درويش فلسفة مُغايرة في الوعي، فوظف آراء أبي العلاء المعري في تقبّلها، لا في رفضها، وبالتالي فدرويش لم يرفض موافقة المعري في آرائه المُغايرة، فجعل من العقل هاجساً لتقبل العاطفة، وافترض عاطفة للخوض في رؤى العقل:
ويعاودون الحربَ حول العقل.
مَن لا عقْلَ في إيمانهِ لا روح فيه..
هل نستطيع تناسخ الإبداع من جلجامش المحروم
من عُشْب الخلود..
يتشكّل نص درويش هنا وفق نظام لغوي يحرص على رتابة ألفاظه؛ من أجل إنتاج الفكرة التي يرغب، والمعنى الذي يُريد؛ من خلال رؤية فلسفية عميقة اقتبسها من قول المعرّي:
اثنان أهل الأرض
عاقل ٌ لا دين له
وديّن لا عقل له
إلا أن درويش، زاد في الفكرة؛ لتكون الفكرة أكثر حيوية، عندما نفخ في روح الكلمة، وأعطاها نَفساً يصعد للعقل، وحياة تنزل للعاطفة، وهو ما بين هذا وذاك، يوازن بين اللفظ والمعنى من أجل أثر الرمز، وديمومة المغزى: (مَن ْ لا عقْلَ في إيمانهِ لا روح فيه).
يحاول درويش النفخ في رئة المعنى، من أجل إنشاء حياة مختلفة، لا نهاية معروفة منذ بدايتها، ولا بداية محسومة لنهايتها، فيتلاشى الجنود من أجل بطل سيموت، منذ جلجامش المحروم من عشبة الخلود. إنّ البحث عن بطلٍ مُعاصر، من خلال فلسفة خاصة يتأمل فيها روح مُنقذ لا يموت:
نام البحر تحت نوافذ الدور الصغيرة..
لا تُعطنا يا بحرُ أكثر من سِوانا، والمياه هي الغيوم
كانوا كما كانوا، وكانوا يرجعون ويسألون كآبة الأقدار
هل لا بُدّ من بطلٍ يموت..
لتكبر الرؤيا وتزداد النجوم..
تتسع مضامين الشاعر اللغوية (البحر)، مقابل ضيق معانيها (نوافذ الدور الصغيرة)، فضلا عن الاعتماد على طريقة الأنسنة في الشعر، فالشاعر ـ يؤنسن – الأشياء؛ من أجل تحريكها، وإدامة حيويتها (نام البحر، لا تُعطنا يا بحر/ كآبة الأقدار)، ومن ثم يستفهم الشاعر عن مصير البطل، ولماذا سيموت، حتى تكبر الرؤيا، وهو استفهام حتمي، يُجيبه التاريخ؛ بأبطاله ِ الذين ماتوا، وخُلّدوا كالنجوم:
نامت أريحا تحت نخلتها القديمة، لم أجد
أحداً يَهزّ سريرها: هَدَأت ْ قَوافِلُهُم فنامي..
ما أُريدُ..
سأصيرُ يوماً ما أريدُ
سأصيرُ يوما فكرة.. لا سيفَ يحملُها
إلى الأرض اليباب.. ولا كتاب
كأنها مطرٌ على جبل تصدّع من تفتُّح عُشبةٍ..
تهيمن الاستعارة المُجدية في مغزاها بنصوص درويش، فيتخذ من الكلمة إضاءة بلاغية يوسّع المعنى من خلالها: (نامت أريحا)، إذ يتخذ من أريحا مثل امرأة تنام في هدوء بعد صخب، أو يُعطيها مقاربة معنوية لمريم العذراء عليها السلام: (لم أجد أحداً يَهزّ سريرها)، فيتناص مع الفكرة في قوله تعالى ﴿ وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبا جَنِيّا﴾. وبعدها يربط هذا التناص مع مرجعية ثقافية، فيوظّف لغة ت. س إليوت في إثراء النص، عبر لغة ذاتية واضحة: (سأصيرُ يوما فكرة.. لا سيف يحملُها إلى الأرض ِ اليباب.. ولا كتاب)، فيتشكّل النص وفق مفارقة التناص، من خلال تغيير الفكرة إلى تجليات أخرى، من خلال استحضاره لفكرة القرآن الكريم ﴿ لَوْ أَنزَلْنَا هَٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعا مُّتَصَدِّعا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ۚ﴾، إذ يجعل من المطر بديلاً عن القرآن، خاشعا متصدعا من تفتح العشب، بلاد من خشية الله، وبهذا حاول الشاعر أن يُغير في الفكرة إلى معنى آخر. تُهيمن على روح النص، ذاتية الشاعر الحاضرة في الكلام الذي يتسع لديه في دلالات الصمت:
وأنا الغريب..
يَضيق ُ الشكل.. يَتّسع الكلام..
يتناص درويش هنا في لغته، مع مقولة عبد الجبار النفري (إذا اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة)، لكنه يجعل من الكلام مُتسعاً له، كلّما ضاق الشكل لديه، فيتكئ في كلّ الأحوال بأنسنته للأشياء:
أيها الموت انتظرني خارج الأرض
انتظرني في بلادك ريثما أُنهي
حديثاً عابراً مع ما تبقى من حياتي..
يؤنسن الشاعر الموت، ويُعطيه سمات الإنسان، فيجعل له أُذنين، ليُسمعه خطابه الصريح (أيها الموت)، ومن ثم يفضي إليه بالمشاعر الواضحة (انتظرني خارج الأرض)، ريثما ينهي الشاعر أحاديثه العابرة، مما تبقى من حياته، فالموت لديه حمل ثقيل، لا أحد يحمله غيره:
لم ألد ولداً ليحمل موْت والده
وآثرتُ الزواج الحُرّ بين المفردات..
يُصرّح درويش بفكرة المعري الشهيرة وهي عزوفه عن الزواج، ومحاولة لقطع النسل: (هذا ما جناه أبي عليّ، وما جنيت على أحد)، فحاول أن يتأثّر بفكره ِ ورأيه، لذلك لم ينجب ولداً؛ ليحمل موته، بل اكتفى باللغة والزواج الحرّ بين مفرداته، فاللغة لديه ثراء العقل، وكلّما كبر العقل، زادت الهموم، حسبما يقول:
كلّما ازداد علمي
تعاظم همّي
وأصل هذه الفكرة مُقتبسة من جملة الإمام الشافعي: (إذا ما ازدت علما زادني علما بجهلي)، فالإنسان، كلّما ازداد علما، ازداد همّاً (درويش)، كالذي كلّما ازداد علما ازداد علماً بجهلهِ (الشافعي)، وفي الحالتين، فإنّ الإنسان العاقل، يزداد وعياً، كلّما ازداد علماً، ومن ثم تزايدت مسؤوليته اتجاه نفسه والآخرين، فضلاً عن ازدياد معرفته بما يمتلك من جهل، أو ما تبقى لديه من سلبيات، يستطيع تشخيصها، والعكس صحيح، فالجاهل يكتفي بما لديه من جهل يُفرّط فيه من دون هَمّ أو وعي.
كاتب عراقي – القدس العربي