مرام النابلسي محامية وكاتبة
بالأمس وبعد مرور اثنين وخمسين يوماً على السابع من أكتوبر، يخرجُ في مشهدٍ لافت “كلب” برفقة مربيته وهي فتاة “إسرائيلية” أفرج عنها ضمن صفقة التبادل، كان الكلبُ يبدو بصحةٍ جيدة بلا فزع ولا خوف حيث علاماته الحيوية كانت تشير إلى ذلك، من الطبيعي في مثل هذه الصفقات أن نرى بشراً، لكن أن نرى حيوانات؟! أظنه أمراً غريباً بعض الشيء، وإن لهذه الغرابة أبعاد أخرى كثيرة تجاوزت المشهد بحد ذاته، حيث تتم حماية الفتاة وكلبها بكل رفق من قبل رجال المقاومة الفلسطينية وصولاً لمركبة الصليب الأحمر، ويصر المقاومون على الاطمئنان على كلبها وسؤالها فيما يبدو أن كيف ستعتني به في طريق العودة بينما يتحدثون إليها ويشيرون إلى الكلب، حتى إذا ما أجابت وأومأت برأسها إشارةً إلى الفهم، أشار أحد المقاومين إليها بحركة الإعجاب ” like” كناية عن التأكيد والاطمئنان.
وجديرٌ بالذكر، أن هذا المشهد تكرر كثيراً مع كل تسليمٍ لمحتجزين، ففي كل عملية تسليم يبادر المقاومون بعد الاطمئنان عليهم ومساعدتهم في صعود المركبة بشرح حال المُحتجز المُسن أو المريض لطاقم الصليب الأحمر، وإرشادهم في كيفية التعامل مع بعض الحالات وفقاً لأوضاعهم الصحية، ولسنا بحاجة للاستماع إلى الحوار كي ندرك هذا الأمر؛ فلغة جسد الطرفين وإشارة المقاومين لبعض أجزاء الجسد سواء أجسادهم أو أجساد المحتجزين، واستفهام أفراد الطاقم والاصغاء باهتمام، كل ذلك يشير بوضوح لماهية هذا الحوار، وغنيٌ عن القول أن جميع المحتجزين الذين أفرجت عنهم المقاومة بدت عليهم جميعاً علامات الرضا بل والامتنان أيضاً، فضلاً عن أوضاعهم الصحية الجيدة والجيدة نسبياً لبعض المحتجزين المرضى وكبار السن.
بالعودة لصديقنا الأليف؛ فإن ما يلفت الانتباه أيضاً في قصته؛ هو كيفية اصطحابه في رحلة الاحتجاز أصلاً، ومن يربي الحيوانات الأليفة؛ يُدرِكُ المراد تماماً من دون شرح، فمن غير السهل على المربي مثلاً السيطرة على أليفه في الأوضاع غير الطبيعية، حيث يصاب غالباً بالذعر وعادةً ما سوف يحاول الهروب إذا شعر بالخوف أو الخطر، ما يشير ابتداءً إلى أن عملية الاحتجاز لم يرافقها عنف ولا اعتداء من أي نوع، وإن كان بعض البشر يكذبون، فالحيوانات لا تكذب! فضلاً عن تمكن الفتاة من حمل كلبها واصطحابه وعدم تركه للمجهول، وهذا أمر سوف لن يحدث لو أن صبراً وأناةً ورفقاً وعوناً وحِسَّاً إنسانياً لم ترافق كلها مهمة المقاومين في عملية الاحتجاز، نحن نتحدث عن “حرب” وسلاح ومقاتلين وقصف وحالة عامة من الخطر والرعب، وطريق ليست سهلة على الإطلاق، وبالرغم من كل ذلك؛ تتمكن الفتاة من اصطحاب كلبها في ظروفٍ كهذه!
كلبٌ يتمكنُ من مرافقة مربيته وينجحُ بالعودة سالماً وبصحةٍ جيدة، كلبٌ لم يُترك للمجهول ينهشهُ أو يقتله في أتون حربٍ ضروس، فما الذي جرى (أو جزءاً يسيراً مما جرى) على الجانبِ الآخر، وتحديداً في مشفى النصر بعد ستة عشر يوماً من اقتحامه وإخلاءه بالقوة؟
لقد استهدف الكيان الصهيوني في الأسابيع القليلة الماضية مشافي قطاع غزة ضمن حملةٍ شرسة أتت على كل ما فيها، ومن بينها كان مشفى النصر للأطفال، حيث لم ولن ننسى استغاثة الطواقم الطبية والأهالي لإنقاذ أطفالهم نزلاء هذا المشفى، لا سيما الأطفال الخُدَّج الذين يرتبطُ بقاؤهم أحياء بمواصلة بقائهم داخل الحضّانات وبأجهزة التنفس، الأمر الذي حدث أيضاً في مشافي أخرى وفي مقدمتها مشفى الشفاء الذي بتنا نرى استشهاد الأطفال فيه طفلاً تلو الآخر بسبب انقطاع التيار الكهربائي، ونفاد الوقود اللازم لتشغيل المولدات وبالتالي تشغيل الأجهزة الطبية ومنها الحضَّانات.
وفي 10 نوفمبر الجاري أجبرت قوات الكيان الصهيوني المرضى الغزيين وذويهم وأفراد الطواقم الطبية على إخلاء مشفى النصر تماماً ومغادرة كل من فيه، حتى الحالات الحرجة التي لا تقوَ على الحراك، أما الأطفال الخُدَّج الذين لا سبيل لخروجهم لأن خروجهم يعني موتهم على الفور، فقد أُجبِرَ ذووهم على تركهم بمفردهم تماماً، في مشهدٍ عبثي لا أظن أن إنساناَ يستطيعُ مجرد تخيله، فكيف يترك المرء فلذة كبده وهو في أضعفِ حالاته؟ كيف يتركه وهو أصلاً يُصارِعُ من أجلِ البقاء بينما تتأرجحُ أنفاسُهُ الضعيفة بين احتمالات الموت واحتمالات النجاة؟ كانت طمأنة منظمة الصليب الأحمر لذوي الخُدَّج في أنها سوف تقومُ بإجلائهم إلى مكانٍ مناسبٍ آمن، وبتوفير الرعاية اللازمة لهم، كانت ربما أملاً تمسكوا به وإن كان ضئيلاً، فاستودعوا الله أطفالَهم، قاموا بوداعهم وغادروا المشفى مُكرَهين يكتنفهم القهر والألم والقلق والعجز، لكن لا خيار آخر أمامهم.
بعد ستة عشر يوماً على حادثة الإخلاء القسري هذه، وتحديداً في 27 نوفمبر الجاري تمكنت أحد القنوات الإخبارية عن طريق مراسلها في قطاع غزة بعد سريان الهُدنة؛ تمكنت أخيراً من الوصول إلى المشفى بشق الأنفس، لغايات إعداد تقريرٍ عنه، فكانت المفاجأة بل الكارثة الإنسانية أن هذا التقرير ستكونُ مادته الرئيسية: “مجموعة من الأطفال الخُدَّج” تحللت أجسادهم متناهية الصغر وهم على أسرتهم، بينما طفق الدودُ ينهشها!!
مجزرةٌ بشعة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وقصةٌ تحملُ تفاصيلها من البدايةِ الأليمة حتى النهاية المروِّعة أبعاداً كثيرة أبعد من مشهد الموت، كما كانت قصة “الكلب” في بداية حديثنا؛ تحملُ أيضاً أبعاداً أخرى كثيرة، وإنما لا مجال على الإطلاق للمقاربةِ بينهما.
كانت الغايةُ من إخلاء المشافي في غزة، كما جرى تبريرهُ هو “التفتيش”، ما يعني أن جنود الاحتلال كانوا متواجدين فعلاً في مشفى النصر، وما يعني بالضرورة أن هؤلاء الخُدَّج كانوا أمام أعين الجنود بدون رعاية أو رفقةِ أياً كان، على أجهزةٍ مُعطَّلة وآثار الدمار والتلوث الذي نتج عنه تملأ المكان، بل أنهم ماتوا كذلك أمام أعينهم، وتُرِكوا بلا شفقة وبلا رحمة وبلا أدنى حسٍ إنسانيّ يلفظونَ أنفاسهم الأخيرة، تصمتُ أصواتهم تماماً، وتسكنُ حركتهم على مرأى ومسمعِ “مخلوقات” يقولُ تركيبُها البيولوجي أنها تنتمي للإنسانية!
ستة عشرَ يوماً ولم يصل إلى هؤلاء الصغار جداً الضعفاء جداً غيرَ صحفيٍ يبحثُ عن الحقائقِ كي يوثقها، بعد عراكٍ صعبٍ مع الأنقاضِ وأطنان الأسمنتِ والأمتعة المدمرة، وحسبُها حقائق لا تكفِ كلمةُ “ألم” كي تصفها! ستة عشرَ يوماً ولم يفِ أحدٌ بوعد إنقاذهم، ولم يحترم حتى أجسادهم الصغيرة وحقها في الدفنِ بعد ضياع حقوقهم الأصيلةِ في الحياةِ والكرامةِ وما يعين عليهما، ستة عشر يوماً ولم يحمِ أحدٌ أنفاسهم الرقيقة، ولا حتى أجسادهم التي خلت من الروح؛ من براثن دودٍ لا يرحمُ جسداً لفظ أنفاسه!
بعيداً عن أي شيء وكل شيء، عن أسبابِ الحرب ودوافعها، عن موازين القوى وتكافئها، عن حيثيات المعركة وتفاصيلها، عن الحق والباطلِ وعن كل شيء، كيف يمكنُ لـ “إنسان” أن يرى طفلاً خديجاً يموت أمام عينيه دون أن يأبه؟! بل كيف يسمحُ ابتداءً بتركه وحيداً بدون حضَّانةٍ ولا علاج ولا غذاء، ويُجبِرُ ذويه على تركه؟! كيفَ يمكنُ لمنظمةٍ إغاثية تعتبرُ نفسها “طوقَ نجاة” أن تميز بين إنسانٍ وإنسان؟! فلا نرى إنسانيتها وعطفها الفائض إلا لطرف دون آخر هو بالمناسبة وليس على سبيل المصادفة؛ المُحتل والمعتدي والقاتل والسارق والمرتكبِ بلا هوادة ولا ضمير جرائم حربٍ موصوفة ومثبتة، وتطهيرٍ عرقيٍ واضحٍ وصريح!
هي أسئلة لا أظنُ أنَّ أصحابَ الحق الذين رَعوا “كلباً” واحترموا حقه في الحياة فلم “يتركوه وحيداً” وقد اعتاد على الرعاية، رعوا حقه حتى في الأمن وفي الغذاء وفي رفقة مربيته، الذين أحسنوا لكل من احتجزوه واعتبروهُ ضيفاً معززاً مُكرماً، ولبوا كل احتياجاته الماديةِ منها والمعنويةِ ما استطاعوا رغم ضيقِ ذات اليد، فوضعوا في حسبانهم محاولة تفادي أي صدمةٍ نفسية قد تصيب محتجز، بشهادات المحتجزين أنفسهم، فرَحموا وأنصفوا وكانت يدهم رغم ضيقها هي العُليا، الذينَ ظُلِموا ونُكِّلَ بأهلهم في سجون المحتل وخارج السجون، وقُتلوا حتى لم يسلم من القتلِ خديجاً، وهُدِّمت بيوتهم ومعايشهم وسرقت أموالهم واعتديّ على دينهم ومقدساتهم، هي أسئلة؛ لا أظن أن هؤلاء الكِرام وضعوها في الحسبان في معرِض التعامل مع المحتجزين لديهم، مُقدِّمين بذلك إنسانيتهم وإحسانهم على أي اعتبار، فالإنسانُ الحق – لا بوصفه البيولوجي فقط – الإنسانُ المتحضِّرِ سليم الفطرة يرفضُ الهمجيةَ والإجرامَ ويترفع عنهما، ويقاومُ واقعاً بشعاً لا ينتمي للإنسانية تسبب فيهِ “كائنٌ”.. يُفترض أنه “إنسان”!