مع كل يوم إضافي يمر في ظل استمرار تعليق دوام المدارس ورياض الأطفال، يتكشف لنا مزيد من التشوهات في إدارة عملية التعليم عن بعد، ويبرز المزيد من التحديات التي تجعل تطبيقه بفاعلية أمرا غير ممكن.
ورغم البراهين الكثيرة على عدم نجاح العملية، ما تزال وزارة التربية والتعليم حتى اليوم متشبثة برأيها بخصوص العملية وجودتها، مع أنها لم تجر أي دراسات أو مسوحات حقيقية للخروج بتصور واقعي حول العملية التي أدارتها منذ شهر آذار(مارس) الماضي، لتعبر بها فصلين دراسيين لا يعلم أحد حجم الخسارات فيهما!
جميعنا نعلم الظرف الحرج الذي يمر به العالم جراء جائحة كورونا، وضرورة اعتماد أقصى معايير السلامة العامة، التي تحتم على واضعي السياسات التقليل من التجمعات البشرية. لكن، هل من المقبول أن تكون المدارس ورياض الأطفال من ضمن المجتمعات الخاضعة لهذه الاشتراطات؟!
في سعيها لتنشيط السوق المحلية خففت الحكومة كثيرا من القيود عن القطاعات الاقتصادية المختلفة، وهو أمر جيد بالنظر إلى حجم الأضرار التي منيت بها القطاعات بسبب الجائحة، رغم أننا ندرك في يقيننا أن مثل هذه الخسائر يمكن تداركها في اللحظة التي ينتهي فيها الوباء، وتبدأ الحياة بالعودة التدريجية إلى طبيعتها.
لكن ماذا عن خسائر التعليم التي مني بها الطلبة جراء التعليم عن بعد وتشوهاته الحالية، خصوصا حين يصرح وزير التربية والتعليم أن نحو 30 % من طلبة المملكة -أي ما يقارب (400) ألف طالب – لا يتابعون منصة درسك، بينما تتعالى شكاوى المستفدين من إشكاليات متنوعة، تتسبب في معاناة حقيقية للطلبة وذويهم.
يمكننا القول، وبلا تحفظ، اننا نعيش ردة تعليمية حقيقية في الوقت الراهن، سينتج عنها، في حال استمر التعليم عن بعد، مزيد من التراجع في مخرجات العملية التعليمية التي تشهد بالأصل تراجعا مقلقا منذ سنوات، ولعل أحد المؤشرات الخطيرة على هذا التراجع ذلك التصريح الصادم لوزير التربية الأسبق د. محمد ذنيبات عن أن ما نسبته 22 % من طلبة الصفوف الأولى لا يستطيعون قراءة الحروف العربية والإنجليزية، وأن 624 طالب ثانوية عامة لا يقرأون ولا يكتبون.
وبينما يشكو الأهالي اليوم من أن أبناءهم في الصفوف الأربعة الأولى يعانون تحديات كبيرة في القراءة والكتابة بشكل خاص، يتبدى الضرر واضحا لدى الطلبة الأكبر سنا من خلال مخرجات امتحان الثانوية العامة الأخير، والذي حصّل فيه كثير من الطلبة معدلات غير منطقية وغير صحية، نتجت عن اعتماد أسئلة موضوعية سهّلت إحراز مثل هذه المعدلات، وهو أمر اعتمدته الوزارة في الأصل لكي تبين نجاح عملية التعليم عن بعد، رغم أن قراءة موضوعية في المخرجات لا بد أن تقود إلى نتيجة معاكسة تماما.
المعضلة الأساسية لنظامنا التعليمي أنه مبني أساسا على نقل المعلومات بالتلقين الذي لا يمكن تنفيذه إلا عن طريق التعليم الوجاهي والتواصل المباشر بين المعلم والطالب. هذه العملية لن تكون مجدية من خلال التعليم عن بعد، طالما بقيت مناهجنا على حالها، إذ لا بد من إحداث تغيير جذري في الكتب والمناهج حتى نضمن نجاحا مقبولا فيها.
المعضلة الأخرى تكمن في الفجوة الرقمية التي أسس لها غياب برامج التنمية الحقيقية بين المجتمعات، لتبقى المجتمعات الغنية على حالها، بينما يزداد الفقراء فقرا، ما يمنعهم أن «يتمتعوا ببركات» التعليم عن بعد!
في الجانب الآخر من تحديات التعليم عن بعد، يتبدى وضع الأهالي الصعب، الذين تحولوا من متابعين لتعليم أبنائهم في التعليم الوجاهي، إلى التورط بجميع مفاصل تعليمهم وتدريسهم في عملية التعليم عن بعد، ما مثّل استنزافا حقيقيا لمجهوداتهم، وجعلهم يعلنون صراحة أنهم لا يستطيعون الاستمرار أكثر من ذلك.
وتأخذ معاناة الأهالي هذه منحىً كارثيا لدى العاملين منهم، الذين يضطرون إلى ترك أبنائهم وحيدين في البيوت. فتجتمع مخاطر فقدان متابعة ومساعدة الأهل في عملية التعليم، مع مخاطر تهدد السلامة الجسدية والنفسية والتربوية لهؤلاء الأطفال، ناهيك طبعا عن مخاطر التعرض للمحتوى الإلكتروني غير الآمن.
في الحقيقة، يحتاج الحديث عن الإشكاليات الكثيرة التي تعتري تجربة التعليم عن بعد وكيفية إدارتها والآثار المترتبة عليها إلى سلسلة من المقالات، لكن الأمر الذي لا يحتاج إلى نقاش طويل هو أن البراهين الكثيرة المتوفرة على عدم كفاءة العملية تدعو إلى إيجاد آلية سريعة لوقف هذا «الضياع» الذي يطلق عليه «التعليم عن بعد».