في مراجعة نوعية لكتاب حديث حول أهمية ترويض جموح الرأسمالية الساعي أساساً نحو تعظيم الأرباح، وتحقيق الصفقات، واقتناص الفرص، قامت مجلة الأدبيات الاقتصاديةJournal of Economic Literature بمراجعة مركَّزة لكتاب ديانا هنريغ Diana B. Henrique الذي صدر نهاية العام الماضي حول كيفية ترويض جموح رغبات الرأسماليين في السوق المالي، الطامحين إلى الصفقات السريعة والأرباح الكبيرة، واغتنام الفقاعات قبل انفجارها، مع التركيز على دور الدولة الذي بات يتلاشى بشكل كبير بعد أن صعدت مجموعة من الرأسماليين نحو السلطة والإمارة، بدعوى أنَّ المدرسة الرأسمالية هي مدرسة الحرية، مدرسة «دعه يعمل.. دعه يمُر» التي تبناها آدم سميث وتابعيه. فقد أدّى دخول تلك الطبقات، الخارجة من التجارة إلى الإمارة، إلى تصوير ومحاكاة دور الحكومات بدور شرطي المرور، الذي يسهِّل انسياب حركة المرور دون أن يعبأ بما تحمله المركبات السائرة على الطرقات، خيراً كان أم شراً. في حين أنَّ الضوابط الحقيقية التي اتفقت عليها النظريات الاقتصادية الرصينة جميعاً؛ هي أنَّ للدولة دوراً محورياً في ثلاثة أمور متداخلة مترابطة، هي التشريع والرقابة والتنظيم، على أن يقوم ثلاثتهم على الحاكمية الرشيدة، وحسن إدارة المخاطر، وتحقيق جودة الحياة للشعوب. وقد جاء الكتاب، الذي يصدر عن الدولة الأكثر ترويجاً للفكر الرأسمالي الذي اختلط به حابل الإمارة بنابل التجارة واغتنام الفرصة، بنتيجة مهمة وخاصَّةً بعد تسنُّم أصحاب المصالح وعرّابو شركات النفط ومستشاريها، بل وأهم تجارها، مقاليد السلطة، وحتى أعلى السُّلّم الوظيفي للدولة.
الشاهد ممّا سبق، ومنذ خرج العالم من الحرب العالمية الثانية، وعقَدَ المنتصرون اجتماعات مؤتمر «بريتون وودز» عام 1944، فقد بات من الواضح أنَّ التوجُّه العالمي في الاقتصاد ستحكمه توجُّهات الدولة العظمى، وأنَّ من يحكمها سيحكم توجُّهات الاقتصاد العالمي. وهو ما أوصل العالم اليوم نحو تقسيمات عمل تحكمها السيطرة على مؤسَّسات التمويل الدولية، الصندوق والبنك الدوليين، وسوق رأس المال، في وول ستريت، وعلى مؤسَّسات التصنيف الدولية، وحتى مؤسَّسات التجارة العالمية، ومؤسَّسات التنمية والعالمية، بشتى مجالاتها، الاجتماعية والاقتصادية، بما فيها تلك التي نشأت أساساً ضمن مقاربات الفكر الاشتراكي، كتلك التي تُعنى بالعمال، أو التي تُعنى بما يُسمّى «إدماج النوع»، وتلك المتعلقة بعمالة الأطفال، وتمكين المرأة وغيرها. فقد بات كثيرٌ من تلك التنظيمات ضمن سطوة وصلاحيات وإدارة أصحاب المال والثروة، وبات هدفُها تحقيقَ مزيدٍ من العوائد المالية الجامحة، شريطة ألّا يتعارض ذلك مع استهداف الدول لضمان تبعياتها واحتوائها واستقطابها وتحقيق إدمانها على الحاجة إلى المال، وأحياناً إلى السلع الأساسية، عبر الديون والتمويل ومؤسَّسات التنمية المدعومة من الدول، من جهة، والمنح والمساعدات العينية والمالية، من جهة أخرى. وبالعودة إلى كتاب ترويض الرأسمالية، تجد أنَّ الخاتمة تدور حول أنَّ المَخرَج الوحيد الذي يمكنه أن يروِّض الرأسمالية الجامحة هو في الدور المحوري للحكومات الذي يرتكز على تنظيم السوق وتشريع قواعده وضبط إيقاعه، عبر تنافسية صحية منضبطة ومضبوطة بين اللاعبين الكبار، المحليين والخارجيين، وسياسات عامة تحمي أصحاب المشاريع الصغيرة والوليدة ومتناهية الصغر، من سطوة الكبار وحماية حقيقية للمستهلك مِن تغوُّل الكبار وانفلات الأسواق. الحكومات لم توجد لتكون متفرجاً أو مجرَّد ضابطٍ للأسعار عبر السقوف السعرية؛ فالمضحك المُبكي فيها أنَّ بعضها حقَّق للتجارة أرباحاً أكثر ممّا كانوا يحلمون به، ولم توجد أساساً للبحث عن القروض السهلة والسيولة المتوافرة، ولم تكن يوماً مكاناً لاكتساب الألقاب والمكانات، للجمع بين المال والسلطة. واللاعبون الكبار، مهما كانت مستويات الضوابط الأخلاقية لديهم، فلن ينتظموا دون حكومات قوية قادرة على التشريع الرشيد، والتنظيم الدقيق، والرقابة الشفّافة البعيدة عن تضارب المصالح، والمحقِّقة لضبط الأسواق وجودة عملها وسعادة المتعاملين فيها. وختاماً، الحكومات القوية يضبط إيقاعها رقابة ومتابعة، بل دعم وجهاز تشريع قوي، برلماني أو استشاري، ديدنه تمثيل المصالح العامة بعيداً عن تحقيق المنافع الخاصة أو تضارب المصالح أو التبعيات بأشكالها المختلفة، داخلية كانت أو خارجية.