استقالة

وقفت عند النّافذة بقلبٍ خافق تراقبُه وهو يدخلُ المبنى، ليأتيها صوتُ زميلتها تقولُ ضاحكة:
“ابتعدي، ستلفتين النّظر… ألم تكبري على حركة المراهقات هذه؟ “ فاستدارت لتجيبَ بصوتٍ يفيضُ فرحاً: “ معكِ حق، أنا نفسي متفاجئة ممّا أفعل، لكنّه الحبُّ من أوّل نظرة كما يبدو، منذ تعيّن هذا الرّجلُ مديراً هنا، وشيءٌ في داخلي يُنبِئني أنّه هو نصفي الآخر الذي أبحثُ عنه، لعلّها كيمياءُ الأرواح كما يُقال، فكلُّ ما فيه يسحرُني؛ مشيتُه، أناقته، ملامحه الوسيمة، طلّتُه المهيبة… هل تعلمين أنّه لا يُفارقُ تفكيري أبداً، وأنّه يسكنُ دقائقَ أيّامي، وأكادُ أراني معه في بيتٍ واحد قريباً… فنحن متناسبان تماماً، بقيَ أن يشعرَ بوجودي!”
ردّت الزّميلة: “ لكن لم تتبادلي معه أيَّ جملةٍ مفيدة حتى الآن، ثمَّ، ألم تسألي نفسك لماذا لم يرتبط حتى هذا العمر؟”
أجابت سارحة: “ كان بانتظار ظهوري في حياته، صدّقيني، تماماً كما حدثَ معي، وها هي الأقدارُ تجمعُنا أخيراً… “ ثمَّ أضافت وهي تعبثُ ببعض الأوراق أمامها: “ للرّجال أساليبهم الخاصّة في التّقرّب من المرأة التي ينجذبون إليها، أمّا نحن النّساء، فما هو السّبيلُ لإفهام أحدهم أنّه فارسُكِ المنتظر؟ ليتني أمتلكُ الجرأةَ والشّجاعة لإشعاره بالصّخب الجميل الذي يضطربُ في روحي كلّما رأيتُه…”.
مرّت أيّام على حيْرتها تلك، إلى أن صارت تتعمّدُ الوقوفَ عند باب مكتبها لحظة وصوله كلَّ يوم، لتهديه تحيّة الصّباح مرفقةً مع أجمل ابتساماتها!
وهكذا، إلى أن جاءها مراسلُه الخاص ذات يوم يستدعيها… فدارت بها الدّنيا، وتحوّلت إلى كتلةٍ من قلق، لكن عادت لتتماسك بعد لحظات مقنعةً نفسها بضرورة إخفاء ضعفها وارتباكها أمامه، فسارت نحو مكتبه متصنّعةً القوّة والثّقة والتّماسك!
دخلت فأشار لها بالجلوس، ومضت لحظات كالدّهر… حتى أقبلَ المراسلُ المسنّ ليضع القهوة أمامهما، في تلك الّلحظة، بدا أن يدَه ارتجفت بعض الشيء، فانسكب القليلُ من القهوة في الصّحن … وفيما كان يحاولُ الاعتذار، لمحتْ المديرَ يرشقه بنظرة ناريّةٍ غاضبةٍ حانقة جعلت الرّجفةَ تسري في أوصالها هي هذه المرّة!
خرج الرّجلُ أخيراً بخطى متعثّرة، في الوقت الذي فوجئت فيه بالمدير يُركّزَّ نظرَه نحوها بطريقةٍ أفزعتها… ثمَّ لتراه يميلُ باتّجاهها، فيهمسُ بنبرةٍ متراخيةٍ لزجة: “ أهلاً بكِ، لاحظتُ مؤخّراً أنّكِ…” ولم تدعه يُكمل، بل انتفضت قائمة لتستأذنه بالانصراف، وتهرعُ خارجةً من المكان كالملسوعة!
ولم يفهم حتى الآن السّببَ الذي من أجله استقالت في ذلك اليوم!

Related Posts

Next Post

Welcome Back!

Login to your account below

Retrieve your password

Please enter your username or email address to reset your password.

x  Powerful Protection for WordPress, from Shield Security
This Site Is Protected By
Shield Security