كتب – راكان الخريشا
في وقت تتهاوى فيه المواقف، ويغيب الصوت العربي عن مشهد الحصار يخرج الأردن من بين الغبار كعادته لا ليستعرض بطولة، بل ليؤدي واجبًا يعرفه جيدً واجب الأخوّة والتاريخ والضمير، وفي ثلاثة أيام فقط دخلت إلى غزة أكثر من 170 شاحنة أردنية محمّلة بالغذاء والدواء والماء، تُديرها أيدٍ عسكرية تعرف تمامًا أين تقع فلسطين من القلب الأردني.
ورغم هذا الجهد الجبار انهالت الانتقادات قالوا لا تكفي حارة، وكأن الأردن مطالب وحده بإطعام غزة عن بكرة أبيها! وكأن الأردن دولة نفطية عملاقة أو قوة عظمى تملك موانئ مفتوحة وخزائن بلا قاع نسوا أو تناسوا أن الأردن ليس من دول المال، بل من دول الموقف، وأنه في زمن الغياب الجماعي ظل يقف على الجبهة نيابة عن سبعٍ وخمسين دولة إسلامية آثرت الصمت أو التفرّج أو الانشغال في تفاصيل لا تُنقذ طفلًا ولا تطفئ نارًا.
ألم يكفِ أن تكون أول طائرة إغاثة حلّقت لغزة كانت أردنية؟ وأول مستشفى ميداني ما زال صامدًا هناك رغم نيران الاحتلال كان أردنيًا؟ وأول قافلة تحركت من الأرض لا من الكلام، كانت قافلة يقودها الجيش العربي المصطفوي؟ الانتقاد سهل أما الوقوف على الأرض تحت الشمس وسط القذائف فهذا ما لا يُجيده إلا من اعتاد حمل المعاني الثقيلة دون ضجيج.
هنا يتجلى الأردن كما وصفته الأغنية
“أردن العزة والنخوة، والشعب الواثق والعزوة قد تركك الله على الأعداء، وأعطاك الله القوة”
نعم هذه ليست كلمات شعرية عابرة، بل شهادة واقع تُترجمها مواقف لا تتغيّر، ومبادئ لا تهتز، وميدان لا ينسى من صمد ومن ناصر ومن قاتل بالصوت والسلاح والكلمة والشاحنة والطبيب والمُسعف.
الأردن لا يدّعي البطولة، بل يمارسها لا يصطنع مشهدًا أمام الكاميرات، بل يصنع فرقًا في حياة الناس بصمت، ولا ينتظر التصفيق، ولا يلهث خلف عناوين المدح، بل يشتغل بعقل الدولة وروح الجندي، فلا يخذل غزة، ولا يساوم على فلسطين يُنقذ ويغيث ويسعف ويُداوي، ثم يعود ليُكمل المعركة من جديد دون أن يلتفت خلفه.
الهجوم على الأردن من خلف شاشات الهواتف لا يغيّر شيئًا فالميدان لا يكذب، وغزة تعرف من يقف معها فعلًا لا من يكتفي بالشعارات الرنانة الأردن لم يغب عن أي ساحة لم يتخلَّ عن أي وجع فلسطيني، لم يساوم، لم يساير، لم يخذل هذا البلد الصغير بحجمه، الكبير بمواقفه، أثبت مرة تلو أخرى أن الكرامة لا تُقاس بعدد الدولارات، بل بعدد المرات التي وقفت فيها حين جلس الآخرون.
الأردن لا يحتاج شكرًا من أحد، لكنه يستحق احترام الجميع من لا يعرف الأردن فليقرأ ما كتبه التاريخ عنه على جدران القدس، وفي خيام غزة، وعلى صدور الشهداء هذا بلد لا يشبه أحدًا لأنه لا يُشبه إلا نفسه.






