صدى الشعب – كتب داود عمر داود
اختلفت أراء المحللين السياسيين في فهم التطورات الأخيرة، وتحديداً الهجمات المتبادلة بين إسرائيل وإيران على مدى أسبوعين. لكن الواضح مما جرى أن أمريكا أثبتت للعالم أنها تُمسك بخيوط اللعبة بيدها عالمياًً وإقليمياً، وأن إدارة ترامب هي التي تتحكم بتحريك الأحداث كيفما تشاء، بينما نجد باقي الدول الكبرى تقف موقف المتفرج، تراقب كيف يدير ترامب المشهد.
ومن الثابت أيضاً أن ترامب هو الذي قام بافتعال المواجهة المحدودة بين إيران وإسرائيل، وتعمد الإيقاع بينهما، وتحريضهما على بعضهما البعض. فهو أراد أن يحجمهما ويؤدبهما معاً، لانهما انحرفا عن المسار المحدد لهما، رغم التنبيهات والتحذيرات الأمريكية لكل منهما، عبر السنين.
واستطاع ترامب بدهائه، رغم ما يقال عنه، أن يورطهما في مواجهة قوية، ومحسوبة بدقة، زلزلت كيانهما، وكبدتهما خسائر فادحة، حتى وصل الحال بهما أن يتوسلا لوقف المواجهة. فأصدر ترامب أوامره، في الوقت الذي أراده، فتوقف المواجهة في الحال، دون توضيح لماذا بدأت أصلاً، ولماذا توقفت.
ما هو هدف أمريكا من تحجيم إيران وإسرائيل معاً؟:
الطرفان من اهتمامات أمريكا في المنطقة. فإيران يصفها محللون بأنها “محمية أمريكية”، منذ ثورة الخميني، عام 1979، رغم كل ما يبدو على السطح من خلافات. فهناك علاقات قائمة، مباشرة وغير مباشرة، وخطوط تواصل خلفية مفتوحة، بين طهران وواشنطن.
أما الهدف الأمريكي من الضغط على طهران بهذه القوة الكبيرة، هي أنها تريدها أن تكون من ضمن الحلف الجديد، أو حائط الصد، الذي تسعى الولايات المتحدة لاقامته، أمام أي تمدد صيني مستقبلي باتجاه المنطقة، تكون أطرافه الدول الإقليمية الكبرى، شبه القارة الهندية، الهند والباكستان، وتركيا، والجزيرة العربية، والهلال الخصيب (العراق وبلاد الشام). ومن أجل أن يتشكل هذا الحلف لا بد أن يسود “السلام” بين أطرافه، كما يقول ترامب، وتربطهم علاقات ودية صافية، بدون توترات، أو خلافات، أو نزاعات، أو صراعات.
ترامب ضرب عصفورين بحجر واحد:
وعليه فإن المصلحة الأمريكية الاستراتيجية العليا، في تشكيل الحلف الجديد، تقتضي تسوية القضية الفلسطينية من خلال حل الدولتين، الذي تبنته الولايات المتحدة عبر عقود. وكانت إسرائيل هي التي تعرقل تنفيذ حل الدولتين وترفضه.
لذلك سعت أمريكا تاريخياً إلى محاولة “تحجيم” إسرائيل، لإرغامها على قبول هذا الحل، إلا أنها فشلت في جعلها ترضخ لها، رغم استعمالها شتى الأساليب، بما في ذلك سياسة “العصا والجزرة”، أو القوة الناعمة والقوة الخشنة.
فكانت “الجزرة” هي تقديم كل أصناف المساعدات المجانية، من عسكرية واقتصادية ومالية ودبلوماسية. بينما كانت “العصا” هي توريط إسرائيل في مواجهات عسكرية كانت موجعة جداً لها، مثل حرب عام 1973، التي أُجبر بعدها “مناحيم بيغن” على توقيع “اتفاقية كامب ديفيد”.
وكذلك الحال الحال ينطبق على المواجهة الأخيرة مع إيران، التي جعلت قادة الكيان يتوسلون لوقف التراشق، تماماً كما توسل قادة إيران أيضاً. لذلك تمكن ترامب من أن يضرب، كما يقال، “عصفورين بحجر واحد”. فالهدف الأمريكي بعيد المدى هو تحجيم إسرائيل، وإضعافها حتى تنفذ حل الدولتين، شاءت أم أبت.
وأخيراً أُجبرت إسرائيل على التفاوض بشأن حل الدولتين:
وعليه، يبدو أن لعبة الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، قد نجحت في تحجيم إسرائيل وترويضها للقبول بحل الدولتين في فلسطين. فقد سارع ترامب إلى استدعاء نتنياهو إلى واشنطن، فور وقف التراشق مع إيران، واستغل لحظة ضعفه ليقطف ثمار الضغط الشديد، الذي مارسه عليه وعلى حكومته، حين أشعل المواجهة مع إيران.
فكانت النتيجة رضوخ نتنياهو والموافقة على حل الدولتين، بإقامة دولة فلسطينية، وهو الأمر الذي طالما سعت إليه أمريكا، منذ صدور قرار الأمم المتحدة، رقم 181، بتقسيم فلسطين، نهاية عام 1947، وظلت إسرائيل ترفض تطبيقه على الدوام.
وجاء الإعلان عن ذلك في تصريح رسمي نقلته “الواشنطن بوست” عن المتحدث باسم مكتب نتنياهو، رئيس وزراء إسرائيل، قوله: “لقد وافقنا على اقتراح ويتكوف ومستعدون للدخول في المفاوضات”.
معارضة اليمين الحاكم في إسرائيل لحل الدولتين:
وعلى الفور استهجن الوزير الإسرائيلي المتطرف “بن غفير” الأمر وقال: “أجد صعوبة في تصديق أن نتنياهو سيكرر أخطاء الماضي، ويدخل في مفاوضات تؤدي لإقامة دولة فلسطينية”. ورغم ذلك بدا ترامب متفائلاً من ثبات موقف نتنياهو لأنه وعده أن يقدم له رشوة سياسية مقابل الموافقة على حل الدولتين. إذ دعا ترامب إلى إلغاء محاكمة نتنياهو في قضايا الفساد المرفوعة ضده “فوراً” أو منحه “عفواً”.
خلاصة القول: ترامب أضعف إسرائيل ورفع غطاء الحماية عنها:
في اللحظة التي أعطى فيها ترامب موافقته على أن تضرب إيران إسرائيل فإنه كان قد اتخذ قراراً خطيراً، ربما هو نفسه لم يدرك خطورته، تمثل برفع غطاء الحماية عن الكيان، وإضعاف موقفه، وفتح الباب لتلقيه الضربات في أي وقتٍ، ومن أيٍ كان من الآن فصاعداً.
وهذا اختلاف كبير بين ما حصل في السابع من اكتوبر عندما تقاطر زعماء الدول الغربية، واحداً تلو الآخر، لمساندة الكيان ولو معنوياً.
أما في حرب الـ 12 يوماً، فلم نجد ولو دولة واحدة تلوم إيران على ضرب إسرائيل، والحلفاء تركوها لمصيرها. وهذا سيجعل الكيان مستقبلاً معرضاً لتلقي الضربات كلما رفع رأسه، وخالف الأوامر والتعليمات. وحينها يكون قد أصبح كياناً هشاً ضعيفاً هزيلاً يتعرض لضرب من هب ودب. فالغرب لم يعد بحاجة لـ “قلعة متقدمة” في منطقتنا، وبذلك تكون إسرائيل قد فقدت دورها الوظيفي، وسبب وجودها، خاصة عندما تُلغي أمريكا اتفاقية سايكس بيكو وما ترتب عليها.