كتب. بشار الجرار
لا هذه ولا تلك. الفئة التي تقرر ما «نسلّي» به صيامنا هي الممولون، وإلى حد ما المنتجون، أو لعلهم يحسبون ذلك.. صناعة الترفيه من أخطر الصناعات الدفاعية، إن جاز التعبير. دفاعية-هجومية كيفما أرادت العقول التي تخطط وتقرر، تنتج وتبدع. هي من ضمن ما يعرف بالقوى الناعمة للدول التي ينبغي أن ترصد لها الموازنات على غرار ما يرصد للأسلحة التقليدية وغير التقليدية في ترسانات العالم من حولنا، والذي عاد إلى سيرته الأولى، إلى عهد ما ظننا أنه مضى، عهد الحرب الباردة
كان الله في عون التلفزيونات الوطنية، سواء تلك التي تمولها الحكومات أو الجمهور من خلال رسوم لا تكاد تذكر أمام الأرقام الفلكية التي تبذل بسخاء مريب على الفضائيات ومنصات التواصل الاجتماعي، والأهم تطبيقات البث الإلكتروني، نتفلكس وعشرات تنافسها في الأسواق العالمية التي لم تقرع بعد أبواب المشرق
أنتمي إلى جيل، كان السائد فيه تلفزيون واحد لكل منزل. لم يكن له «صدر البيت» فتلك المكانة للجدّين والوالدين وكبار العيلة والجيران والضيوف. كان للتلفزيون ركن في «صالون» المعيشة أو «غرفة القعدة». كنا نتحلّق أسرة وضيوفا حول جهاز واحد، نتابع والشعب كله، نشرة أخبار واحدة، ومسلسلا واحدا، ومجموعة واحدة من الأغاني الوطنية والترفيهية. بعض الأسر كانت من الانضباط لحد تخصيص جدول زمني للمشاهدة، بحسب الفئة العمرية. طلاب المدارس كان أقصى طموحهم -بمن فيهم شباب التوجيهي- حضور المسلسل الأردني أو العربي بعد نشرة أخبار الرئيسية الساعة الثامنة
صرنا في كل غرفة تلفزيون، ولكل فرد تلفزيون، حتى داهمتنا الألواح الذكية وتطبيقات البث الإلكتروني التي يتبادل المتفرجون أرقامها السرية مع المشتركين، فلا تدري كربّ أسرة من يشاهد ماذا؟ وبتمكين من؟ لا ندري كوالدين ما هي الدعايات التي تبث خلال ما يشاهدون. لماذا تروّج تلك الدعايات؟ كنا صياما أو مفطرين في سائر أشهر السنة، لا علم لدينا بمن «يخطب» في أو «يعظ» صغارنا؟ و من «ينظّر» على شبابنا؟
أخذت الرقمنة والعلمنة تحديات الأمن الأسري والمجتمعي والوطني إلى مراحل متقدمة فيها كثير من الثغور. أجهزتنا الأمنية بالمرصاد، لكن خط الدفاع الأول هو الأسرة.. ليس الوالدين فقط، بل ربما بشكل أكثر تأثيرا الأخوة والأصحاب. هي حلقات متضافرة تشد بعضها بعضا
لدينا في كل رمضان، فرصة تربوية إعلامية. هناك كم هائل من المسلسلات. أي متصفح لأسمائها ولعروضها الترويجية يعلم أجنداتها.هذا ليس تجنيا على أحد. لا ينفق فلس أو سنت واحد في غير محله، عندما يكون الإنتاج بملايين الدولارات والأرباح كذلك. هي خلطة قديمة جديدة، ما عادت سرية. اختصروها وبرروها بالإثارة والمتعة. لكنها في حقيقة الأمر، اتّجار بأمراض وغرائز ورذائل وآثام. يقولون أنهم يريدون التوعية في بعض المسلسلات، لكن كثيرا مما يعرضون من مشاهد، وكثيرا من السيناريوهات والمؤثرات السمعية والبصرية تعمل العكس تماما. عوضا عن التوعية، ثمة تبرير وترويج يراوح بين التلميح والتصريح. وذلك يشمل تعاطي السموم المسماة المخدرات والجرائم بأنواعها والجنس الحرام والفوضى أو حالة انعدام اليقين وانعدام التوازن. وهاتان الأخيرتان في غاية الخطورة سأعود إليهما في مقالة أخرى
ما نراه كل عام هو ما يقرره الممولون ومن ثم المنتجون. المسؤولية تقع علينا، فنحن المؤتمنون على أسرنا وأوطاننا وليسوا هم، خاصة إن كانوا يخدمون ثقافة وأجندة أخرى تراها واضحة على اختصاصاتها الترفيهية وبينها ما يمس هويتنا لا بل وإنسانيتنا وفي الصميم