في بادرة مفاجئة، وبعد اتصالات على المستوى الأمني، تعيد تركيا النظر بسياساتها تجاه مصر، بل وتطلب من قنوات المعارضة المصرية في تركيا أن تتوقف عن نشر أخبار وتقارير تستهدف مصر ونظامها، وأن لا توظف منصاتها الإعلامية في تركيا بما يحدث خلافات سياسية بين مصر وتركيا. مصر اعتبرت إعادة التموضع السياسي التركي انتصارا دبلوماسيا كبيرا لها، بعد سنوات من المواجهة السياسية والدبلوماسية بين البلدين، استندت فيه مصر لمنظومة راسخة في العلاقات الدولية التي لا تجيز للدول التدخل بالشؤون الداخلية للدول الأخرى، بما في ذلك احتضان المعارضة، كما أنها استندت بأنها مصر الدولة الكبيرة الوازنة في الإقليم التي لا تسمح ولا يمكن لدول أخرى التلاعب بمشهدها السياسي، فهي ليست لبنان ولا سورية ولا حتى العراق. ضمن هذه الأسس، وبكثير من المثابرة السياسية والدبلوماسية، ومعرفة وتحليل دقيق للمشهد السياسي التركي الداخلي، استطاعت مصر أن تجعل تركيا تغير من مقارباتها السياسية وتعيد النظر استراتيجيا بعلاقاتها مع مصر وتتوقف عن دعم الإخوان المسلمين المصنفين مصريا كحركة إرهابية.
هذا عن مصر، أما عن تركيا، فلا يمكن قراءة ما يحدث من تحول تجاه مصر، إلا أنه انتصار للبراغماتية السياسية أمام الخطاب السياسي الحالم، سواء ذاك الخطاب الذي يحاول إعادة أمجاد إمبراطوية انقضت أوغلت في آخر أيامها بالعرب والعروبة، أو الخطاب الذي يرى أن تركيا قادرة على تركيع الجميع من حولها لأنها الأقوى والأقدر. الواقعية السياسية والبراغماتية فرضت نفسها في النهاية على سلوك الدولة التركية. يتزامن ذلك مع مزيد من الضيق الأوروبي بتصرفات تركيا لجهة تقاربها مع روسيا، أو تعاملها مع اللاجئين السائرين باتجاه أوروبا، أو سياساتها الدفاعية التي لم تعد كسابق عهدها، بل أصبحت تدخلية وتوسعية أحيانا، إضافة لسجل حقوق الإنسان في تركيا. ما تزال تركيا حليفا موثوقا من الغرب ومن حلف الناتو، لكن تبدت مساحات واضحة للخلاف بين الطرفين، ما يجعل تركيا بحاجة لمزيد من الأصدقاء، وتصفير بعض المشاكل من حولها.
خلاصات سياسية مهمة يمكن استنتاجها جراء الاستدارة التركية الأخيرة تجاه مصر، أولاها وأهمها، أن زمن معارضات الخارج قد ولى، وأن أي معارضة ما لم تكن وطنية المضمون والجغرافيا فهي ضرب من العبث. ثانيا، أن الدول التي تحتضن معارضات لدول أخرى لا ولن تضحي بمصالحها مع تلك الدول في سبيل المعارضة، فهذه المعارضة بالنسبة للدول الحاضنة ما هي إلا ورقة لعب سياسي تختفي بمجرد اختفاء قدرة تأثيرها أو تعارضها مع المصالح الدولية الراسخة، وأن العقلانية والبراغماتية السياسية هي التي ستسود بالنهاية وتطغى على الاعتبارات الأخرى كافة.
تركيا دولة مهمة في المنطقة، ومن شأن فعلها البناء، الذي يبتعد عن التدخل بالشؤون الداخلية للدول الأخرى أو يدعم معارضاتها الإخوانية، أن يجلب الكثير من الخير للإقليم اقتصاديا وأمنيا وقيميا. نأمل في الاستدارة التركية الأخيرة تجاه مصر، ومحاولات فتح الخطوط مع السعودية، بأن تكون بداية لحضور تركي إقليمي وبناء إيجابي مثمر، ففي ذلك خير للجميع.