الوجهة : نجو جنوب أدمن احتضان خيباتنا اللا مستحقة، يحتويها دون كلل أو ملل، كما نقدمها له نحن ( خيباتنا ) بذات الشغف والحظ الردي
المناسبة : ختام زيارة من شقين، الأول نظري فيه من انتعاشة الأضواء لذة، الثاني عملي فيه من فشل الهدف المنوي تحقيقه غصة.
بعد الحسابات المتعارف عليها من شحٍ للركاب، إلى أجرة أكبر، ثم مماطلة في الانطلاق ( حتى يمتلئ الباص )، بالمناسبة دومًا يكون من ضمن الركاب فتاة أو اثنتين، تمثل في تلك الرحلة وأمام ذهنك كافة العثرات والأحلام المسحوقة، تمثل لك كل العقبات التي تواجهها الأنثى أساسًا في مجتمع مبني على محدودية الفرص، تثير فيك الإحساس بالظلم والمعاناة دون أن تعلم أساسًا من هي، ومن أين جاءت، وماذا أنجزت!
أقول: بعد كل هذه الحسابات ينطلق الباص، باصنا هنا أعلن لنا المسار النفسي للرحلة صراحة قبل أن يغفو من ينوي النوم، أعلنها عبر الفنان عبد الكريم عبد القادر قائلًا: ( ومنين أبتدي يا جرحي الندي، حسبي على الأيام والحظ الردي )، هنا وعلى الفور تدخلت بحكم علاقتي مع السائق محاولًا تعديل المسار، هتفت قائلًا: ارحمنا يا بو، مستويين خلقة!
ابتسم السائق وغيّر الموسيقى باتجاه فنان العرب محمد عبده يشدو بأغنية الأماكن، ( الأماكن اللي مريت انت فيها عايشة بروحي وأبيها بس لكن ما لقيتك )، ليست أقل عنفًا من الأغنية السابقة لكن في دواخلها إحساس وعاطفة بإمكانك خوضها، تحت وطأة تجربة سابقة على الأقل، وهنا فجأة يقول: ( جيت قبل العطر يبرد، قبل حتى يذووووب في صمت الكلام واحتريتك )
هنا بدأ الصحراوي يلقي بظلال أفكاره الخاصة علينا، البعض اختار النوم كمحطة آمنة ينأى بها ونفسه بعيدًا عن الاضطراب المرتقب، البعض الآخر بدأ طربًا خاصًا به عبر هاتفه وسماعاته، أما أنا فكما هي عادتي بدأت فضولي بتحليل الركاب أو تأملهم والخوض في تفاصيل من مخيلتي، حتى أنني غنيت للعسكري ( الطازج جدًا ) الجالس أمامي، يبدو وأنها أول ( ترويحة ) بعد أشهر التدريب الشاقة التي تنطلق من خلالها حياته العسكرية.
غنيت له في نفسي همسًا: هدبتلي شماغ الأحمر، بيدها وغزلت علم، قالت يبني خلي راسك، فوق عالي بالقمم، أنا أمي أردنية، همها تربي زلم، التفت إليَّ صدفة فابتسمت وقلت بصوت واضح: الله يعطيك العافية ويرزقك، ابتسم بسماره الأخاذ وأجابني: جمعًا إن شاء الله، شكرًا يا عم!!
مسمى العم هنا قادني نحو حقيقة لست أنكرها لكنني لا أرغب بسماعها، متى وكيف أصبحت عمًّا ( على صعيد العمر )؟ ما الذي أنجزته من أحلامي وطموحاتي وأفكاري؟ ما الذي كتبته من مخزوني الإنساني والحسي والعاطفي قبل أن أترقى لعمٍّ باتت شيباته علامة نضج وهمية؟ وهمية لأن يقينك بالنضج لا يقل خطرًا عن حاجتك أحيانًا للتهور؟ أسئلة واخزة وأجوبتها نابضة، تركتها وأرسلت رسالة لزوجتي ( ودكوا إشي من المرج )؟
انتقلت لراكب آخر، يقاربني سنًّا، يفوقني همًّا، أدركت بسهولةٍ أن وجهه يفوق عمره الحقيقي، من الواضح أيضًا عبر حقيبته وكيس حلويات النجمة أن غيبته كانت أسبوعًا على الأقل، كان يقظًا للغاية وعلامات التوتر تعلو محياه وحركة فمه، ( بسولف مع حاله )، وكم منا افتقد الهدوء والسكينة حتى بات يصنع حوارات متعددة وعلى كافة الأصعدة الشخصية والعملية، مفترضًا من خلالها الاجوبة اللازمة لموقف تافه ما، أو تجاه خبثٍ معين.
اعتبارًا من القطرانة تنتقل فسيولوجيًا أكثر نحو واقعك، نحو كركيتك التي تبدأ بتنشيط الذاكرة الحية لواقع لا تستحقه، تنتقل لحيرتك بين الحب والحال المتعثر، من الشباك جاءت النسمة، جنوبية تدغدغ الصمت كعيني لهفة بريئة، تبتسم فيضحك معها الشوق، فتسافر طربًا كل دهشاتنا مغنية: عبرت أنا حدود سوريا، وأني على الزين دوَّارة، يا صاحب الشيك وافتحلي، ومن الكرك جيت زوَّارة..