لن نقلل من فعل الزملاء والزميلات أيا كانت دوافعهم للنهوض بواقع الصحافة التي تعيش اليوم رغم أنفها أزهى حالات الهزال.
وفي حالتنا الراهنة، وما يتسم به المشهد الاعلامي ولا سيما خلال العقد الأخير من عمر صحافتنا التي تناور لتبقي على قيد الحياة لا تزال الأفعال لا تتساوق وحالة التعسف التي تظلل صحافتنا المنكوبة، وحال الإغراق التي يعيشها ابناؤها.
أما لم الفعل ما زال يرواح مكانه؟. فلذلك أسبابه الوجيهة التي لن نستطيع أن نضعها على طبق الحقيقة؛ خوفا من تهمة طيارة أو رصاصة طائشة، ولكننا وبكل إئتمان علينا أن نعترف بأننا جزء من هذا الحال البائس الذي وصل إليه إعلامنا، فقد تآلفنا مع حالة التآمر على أنفسنا، بل أصبحنا جزءا اصيلا منه.
نصفق بحرارة لكل تغريدة في فضاء بؤسنا ، ونفرح بلا وقار لحفلة الخطابات المغموسة بحبر ضعفنا الذي أصبح يعاني من فقر دم حاد.
أغلقت صحف، وناحت الأخرى ، تشردت عائلات ، وما زال الآداء عند خط البداية، تُشبع جوعنا مائدة موسمية، وُتنعش الذاكرة بطاقة عابرة ، ولم نقف في وجه هذا التخريب المؤطر بقوانين عرفية ساهمنا بصياغتها إما بحضورنا الخجول أو بآداء مهزوز.
أما الإدارة فلا تسألوا عنها، فقد أحاطها سوار المصالح؛ فراحت تجتهد لخنق بقايا الصوت أو ليبقى مبحوحا على أن لا يتجاوز سقف مظلتنا الشرعية.
امتد التضييق وتعددت أشكاله، ولم نحرك ساكنا، فقبل توقيف الزميل (جمال حداد) عبرت زنازين الحرية توقيفات أخرى لزملاء كثر من بينهم الزميل ( باسل العكور) الذي نذر نفسه وموقعه للدفاع عن الزملاء والزميلات فماذا فعلنا في حينه؟.
لا شيء يستحق الذكر . إذا، هي حالة من الخذلان الممتدة، ولن تكون قضية الزميل جمال حداد آخرها.
ستتكرر الحالة قبل أن يصيبنا الرشد، ونؤسس لمرحلة جديدة في التعاطي مع قضايانا، وإن ملأنا فضاء الكون تغريدات وتصريحات، فلن تتحرك المياه الراكدة ، لأننا قبلنا بالقليل وغبنا بوعي أو بغيره عن العمل المنظم والوقفة الجادة والتحرك الدؤوب؛ فسلبت الحقوق وأصبحنا نرضى بأقل القليل.
لن يتغير حالنا إلى أفضل منه ما لم يكن هناك فكفكة للغز التضييق، وتجريف عقول السلطة لنقف ندا لها في الدفاع عن مهنة سلبوا عذريتها في رمال متحركة.
لن تكسر قيودهم إلا إذا وقفنا صفا واحدا في وجه سالب الحريات، مؤمنين برسالتنا ودورنا في إحداث التغيير.
اليوم، هناك صحافة تحتضر، وزملاء يغتالون على أبوابها ، فمرة تقطع أرزاقهم، ومرة بمعاقبتهم والتضييق عليهم، ومرات ومرات في اعتقالهم وسلب حرياتهم.
علينا أن نتوقف عن الاستجداء، والنظر من ركن قصي، فصوتنا لن يخترق الصمت إذ بقيت افعالنا متناثرة.
ليس من المجدي تذكير الحكومة بدور الصحافة وأهمية حرية الرأي والتعبير.
المجدي حقا هو تذكير أنفسنا بأننا نسير بخطوات عجولة إلى حتفنا.
ندرك جيدا أن من أوصلنا إلى هذه الحالة هو التقاء المصالح إلى جانب وهن نقابي ابتلعته الذاتية والفردية .
المطلوب اليوم أن نقف صفا حكيما في وجه التشريعات التي أمادت الأرض تحت أرواح الصحفيين.
إن إضعاف صحافتنا ماليا، واللجوء إلى ايقاف الصحافيين ورفع الدعاوى القضائية هي سياسة لعب عليها السياسي والأمني، وهو مدخل لتصفية ما تبقى لدينا من صحافة كانت يوما حاملة مشعل التنوير والتغيير.
المشهد برمته يؤشر إلى حالة من انعدام الأمن الوظيفي للصحفيين ، إلى جانب زيادة الاستقطاب التي أوجدها المخيال الماكر ، وهذا ليس وليد الساعة بل هو صناعة حاكها اللاعبون بتفاصيل المشهد الوطني على امتداد عقود من الصمت والتخويف وفق سياسة العصا والجزرة .
وعلى كل الأوجه، ومهما كانت المبررات، فقد شكلت تداعيات إيقاف الصحفيين فصلاً جديداً في تشتيت الحال وتأزيمه، فلن يدفع مهما كانت نتائجه ومآلاته أركان خلية الأزمة إلى الجلوس والبحث عن حلول ، فلا ارادة حقيقية ليكون الإعلام رافعة للقيم الوطنية، ولا دليل على أن الحرية سقفها السماء، بل سقفها اشخاص يعتبرون أنفسهم مركز الكون وعلينا أن ندور بفلكهم.
بالنسبة للمختصين فإن التوقيف غير جائز في قضايا المطبوعات والنشر إلى جانب تناقضه مع قرينة البراءة، بالنظر إلى حجم الضرر الواقع على الصحفي في وقت لم تثبت فيه ادانته.
بقي أن نقول إلى من يرون ما لا نرى : إن الصحافة الحرة هي اكسجين الدولة الديمقراطية، والنهضة الحقيقية، ولن تتخلى الصحافة عن حريتها مهما كانت الأثمان.
نستذكر في هذا المقام قول: (دانيلو أربيا من جمعية الصحافة بين الأميركتين): إن أفضل قانون للصحافة هو عدم وجود أي قانون على الإطلاق.