نورالدين نديم
صَعَد الاحتلال الصهيوني بحربه على غزة أعلى شجرة التصعيد، محطّماً خلفه جميع السلالم التي بإمكانها مساعدته على النزول، وإن ظن بأن الحليف الأمريكي سيجديه نفعاً فهو يراهن على بؤرةٍ جديدةٍ تضاف إلى بؤر التوتر المستدامة في أفغانستان والعراق.
أمر لا يدعو إلى الإستغراب ما أعلنه الكيان الصهيوني في حربه على غزّة، عن نيته الممتدة تاريخيّاً والتي تخدم السبب الذي وجد لأجله، وهو الإحلال والإبدال، إحلال شرذمة من شتات مجمّع على أساس ديني، مكان شعب عريق متجذّر في أرضه وعلى ترابه، وإبدال الهويّة العربيّة بالهويّة الصهيونيّة.
لكن المستغرب، حجم الاستسلام والخنوع العربي الرسمي، الذي أوصلنا إلى مرحلة نشتاق فيه لبيانات الشجب والاستنكار، ولكلمات الرفض والغضب، ولقمة كقمّة اللاءات الثلاث في الخرطوم.
إنّ الصراع العربي الصهيوني، ليس مجرّد صراعٍ طال أمده وامتد لأكثر من قرن كامل، بل هو صراع يتجاوز حدود الجغرافيا السياسية، وحتى التاريخ الآدمي، ليعود بنا إلى تركيبة البناء النفسي الصهيوني، والذي يمتد إلى عمق التاريخ وعلاقة بني إسرائيل بالخالق سبحانه وتعالى، وبالأنبياء والمرسلين، مروراً بانقلابهم على وثيقة المواطنة في دولة المدينة المنوّرة، وصولاً لاتفاقيّات العار المسمّاة بالسلام مع الدّول العربية، وعلى رأسها تجربة السلطة الفلسطينيّة.
وعليه فإن الكيان المحتل ولد ميتاً، كإبن غير شرعي لمنظومة إستعماريّة عالمية، وسط محيط يتناقض معه ثقافة وفكراً وعقيدة، وأنّه يعيش أحلام اليقظة التي توهمه أنه يمكن في يوم من الأيام أن يهنأ بالعيش في سلام مع كل هذا الكم من التزوير والافتراء لتبرير القتل وإغتصاب الأرض وتهجير الإنسان.
يلجأ الاحتلال للهروب من مواجهة واقعه الذي ذكرناه سابقاً، إلى تصدير أزمته إلى محيطه، وافتعال أزمات وخوض حروب ليس لها عنوان سوى “إطالة عمر الإحتلال” وتأخير ساعة النهاية والتحرر والجلاء.
ففي حرب غزّة الجارية أحداثها الآن لم يعد الاحتلال كسابق عهده يتحكّم في البدايات، فدخل في حالة إنكار أمام شعبه وتخبط، يحاول من خلاله الخروج من مشهد هو يعرفه يقيناً، وقد ذُكر في كتابه المقدّس، وهو أن كيانه الغاصب حتماً إلى زوال.
ولذلك لجأ النتن ياهو و شتات حكومته إلى استغلال ما حدث في السابع من أكتوبر لمحاولة فرض أمر واقع جديد يهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية على حساب الشعب الفلسطيني، في الداخل والشتات، وعلى حساب دول الطوق العربي، وعلى رأسها الأردن الذي يتحمل العبء الأكبر من هذا الصراع.
قد ينجح الاحتلال في جزء من مساعيه الرامية إلى فرض واقع جديد، وقد ينجح أيضاً في تغيير قواعد الاشتباك وقوانين اللعبة، لكنه بالتأكيد لن ينجح في تصفية القضية الفلسطينيّة،لأنها حاضرة في معتقد المسلمين، فهي آية من القرآن تتلى إلى يوم القيامة، ولأنّ العروبة السارية في دماء الإنسان العربي ترفض هذا الجسم السرطاني الغريب، ولأن الرغبة بالثأر في ثقافة العرب تزداد كلما إزاد العدوان عليه، ولا تنتهي بتقادم السنين.
قد يكون من المفيد أن نراقب ونرصد ونحلل الأحداث حالياً، وقد يكون من المفيد أيضاً قراءة التاريخ بتمعن، لكن المفيد أكثر هو إدارة المعلومة والفهم الذي نمتلكه، لإحداث فعل ناهض بالأمة، يُدرك سنن الكون ونواميسه، فعلٍ استرتيجي بعيد النظر، يبني على الحقائق والثوابت، لا المتغيرات والمصالح.
خلاصة القول إننا بحاجة أن نقتنع أن الصراع مع الكيان الصهيوني هو صراع وجود لا حدود، لا مجال فيه لفصل السياسة عن الدين، ولا لحصره في دائرة الإقليم الضيّقة، فهو صراع معقد تتداخل فيه المصالح الدولية مع الإقليميّة، ولا مجال لإنهائه بالسياسة وحدها إن لم يرافقها خطوات جادّة باتجاه حرب تحرير شاملة للأرض والإنسان، قد تكون شرارتها إنطلقت في السابع من أكتوبر، ومهما كانت النتيجة الأولية بظاهرها نصراً أو هزيمة، إلا أنها فتحت باباً لن يتمكّن الاحتلال وحليفته أمريكا من إغلاقه.