صدى الشعب – كتب أحمد سلامة
ذات حوار آخاذ في أخويته في أماسي عمان المندفعة في ثمانينات القرن الماضي نحو كل شيء مشرق… اعتاد ابو عزمي (محمود الكايد) يرحمه الله، ان يصحبنا الى مطعم في مطلع شارع الغاردنز، قبل ان يصير منسوبا للشهيد وصفي، اسمه (الديوان العربي) وعلى وقع دندنات عود (رضوان) مطرب العصر العماني وقتذاك، داعبت ابو العزم بالقول: يا ابو عزمي ممكن ان تكتب خارج نعيك للاصدقاء في الرأي وتفاجئ الاردنيين بالا تنعى واحدا مات من رجالاتها مرة واحدة على الاقل!؟
كان محمود الكايد قد أسس عادته الحميدة في (الرأي) حين كانت الرأي (واشنطن بوست) الشرق الاوسط دون مواربة ولا مغالاة، نعي الفضلاء الاردنيين بعمود مختصر مكثف على الصفحة الاولى يمر على مزايا الفقيد ويترحم عليه!!
كنا شبابا نداعب الحياة والحياة تغني لنا على مهل عماني مجيد، ولم نكن نحفل كثيرا ونعتني بثقافة الموت تلكم الثقافة التي أسس اليها النبي العربي النبيل المعصوم، محمد عليه واله اشرف الدعاء.. (كفاك بالموت واعظا يا عمر)!!
كانت العظة في الموت كحكمة لا تشغل بالنا كشبيبة الرأي بل كنا منغمسين في لعبة الحياة…
يومها.. اجابني ابو عزمي رحمه الله اجابة لم اتوقف عندها في حينها لكنها ظلت تلاحقني وانا اجالس المهندس وليد المصري.. ودولة الغالي عمنا ابو نشأت اطال الله عمره وزوجته الفاضلة ام نشأت التي اخلت لها احدى اخوات الكنيسة مجلسها لتشارك في حفل وداع صالح المعشر الكنسي… لقد اصر هذا اليعربي الوطني الزعيم طاهر المصري وهو يتكئ على كتف ناصر احمد اللوزي برغم اعتلال بدنه شافاه الله ان يتمم كل مراسم جنازة ابن صديقه رجائي في تكريس للتناغم الاندماجي بين قصة مدينتين (السلط ونابلس) لخمسة اجيال صمدت اخوية رجالها ونسائها رغم كل موجات الجنون والالحاح على الهويات الجائرة من بعض الظلمة في جهالتهم لمعاني (وطن الرسالة)
على مدار قراءة الخوري المحترم رسالة التعزية المقدسية من ارفع مرجعية دينية ل رجائي وال المعشر وكل الدبابنة وجموع الاردنيين.. سرحت مسترجعا ما قاله لي محمود الكايد في الثمانينات..
قال.. اعمارنا يا احمد يصعب انتزاع الفرح بالحياة فيها لان العمر قد مضى والموت يختطف الاحبة والاصدقاء وعلى هيئة ترتيل صوفي يجلله الليل ختم (الله يجعلك تدرك تلك المرحلة وتكتب عن اصدقائك الذين تركوك ومضوا)
والحق.. ان لذة ومتعة الكتابة عن موتى الوطن النبلاء لا تقل غبطة ووطنية عن مداعبة الحياة بما تحويه من متع!!
لقد تشابكت لحظات الموت، والمشاركة بها وتزاحمت على قلبي بالتتابع طوال الاسبوع الماضي… مات زيد الرفاعي، ودفن بجوار والده سمير، وتلقى التعازي وحيد الفقيد (سمير) ووارث جده اسما ودورا وكانت خيمة التعازي قصة وطن مدججة بالعبر والقراءات السبع
تلا ذلك وصول جثمان المرحوم صالح رجائي المعشر رحمه الله وحيد رجائي وقرة عينه وعين السيدة الجليلة ام صالح جعلها الله من الصابرات.. ولقد كانت (جدلة) الاردنيين في قاعة الكنيسة، والتزاحم على قلب رجائي وال المعشر قصة وطن يتلو على العرب اياته في هذه اللحظات التي تهيمن جماجم اطفال غزة وعيونهم المبحلقة العاتبة على الدنيا حين تركتهم هناك نهبا لجنون مرضي اسرائيلي يعلم الله وحده كيف هو المنتهى لهذا الفصل الاغريقي من مسرح الشرق الاوسط
كانت جنازة صالح المعشر (عظة) وحكمة سامية لوطن بناه الرواد في ظل (عبدالله بن الحسين بن علي ال عون القتادي حفيد ابو نمي الهاشمي القرشي) على هيئة التسامح النبوي للجد الاكبر محمد وعزيمته لصهر المهاجر بالنصير ليصيرا صورة للعرب الحقيقين قبل
الانحياز من بعض الاتباع السذج (ل ايديولوجية سايكس بيكو التازيمية التقسيمية العنصرية المبغوضة)
كانت جنازة ذلك الشاب المسيحي صورة من صور التعلق برسالة النهضة العربية التي تدلى فيها رأس (جوزيف هاني) الماروني ودق رأس عبدالغني العريسي الشامي وقتل عبد الحميد الزهراوي على مشانق التطرف التركي التتريكي الفاشل بقيادة السفاح جمال باشا
كان الزهو الوطني باستقبال صالح المعشر والاردنيون كلهم هناك وادوا الصلاة والدعاء لروحه مسلمين ومسيحيين صورة وطنية عربية هاشمية تحتاج منا جميعا الى ضرورة التحكم بغرائزنا وان نستخلص الجمال والزهاء والبهاء الوطني في بنائنا الوطني وتكويننا الوحدوي وان تكف بعض الامراض السارية عن استنهاض البشاعة التي غير موجودة الا في اذهان مردديها
ان للجنائز ثقافتها وعبرها في بلادنا ولقد ارخ الاردنيون بفخر ومباهاة جنازات قادتهم وقاماتهم الوطنية وستظل جنازة صالح المعشر يرحمه الله معلما ساميا وذكرى خالدة في تاريخ وحدتنا الوطنية وعلامة حاسمة على نبذ (الاقلمة والهوياتية عديمة المعنى، والتشبث بان نبقى النموذج النفسي الاردني العربي الذي يباهي ان ناسه يتقدمون في الاشتباكات الكبرى على كل مؤسساته الرسمية ويتماهون مع العرش الهاشمي بصورته الوحدوية وتطلعاته العربية المجيدة..
اما الجنازة الثالثة.. فقد كانت للواء ركن طيار عبود سالم حسن رحمه الله ولقد تشرفت بحضور جنازته لعلاقتي الاخوية بوريثه فيصل
وعبود سالم ادى دوره القومي في الاردن مبكرا وانكفأ في بيته يعلم ابناءه ولم يجر في حياته اية مقابلة صحفية رغم ان الرجل عبارة (عن قاصة وطنية) من الاسرار..
وهو عراقي الميلاد وليس له من اخ في الاردن ومذهبه ينتسب الى الشيعية النجفية العربية، وحمل روحه على كفه فدوى للاردن وللحسين رحمه الله…
ومثل كل الذين لا عزوة لهم عشائريا فلقد جرى تداول قصص خيالية حول شخصه لكن الثابت عنه انه احد ابطالنا الغر الميامين.. لست هنا في لحظة التقييم لدور عبود سالم لكن اود ان احكي عن جلال الموت وفائض قيمنا الراسخة والتي تميزنا عن غيرنا..
كان عدد الحضور على الجنازة ليس مثيرا في كثرته لكن الذي استوقفني هذا الجيش العربي الذي يستر فينا كل عيب او اي نقص ويرفع من شأننا في الملمات لقد كان ترتيب الجنازة وتقدير صاحبها بالتكريم الذي يستحق قد تولاه كتقليد راسخ في حياتنا الجيش العربي وسلاح الجو الملكي الذي قضى فيه عبود سالم جل شبابه وشهامة عطائه كان خلف الجنازة الموسيقى والرصاص والاكاليل والعلم
وحين وقف احد عمداء سلاح الجو الملكي يتلو على فيصل تعازي رئيس هيئة الاركان وقائد السلاح ورفاق السلاح وانتهى الى تقديم العلم ذكرى وهدية وعرفانا للمرحوم ادركت حينها ان الاردن غير فالجيش هو صانع الحب والواجب والجيش هو الكريم اوليس هو من قدم الشهداء دوما من القدس الى جنين ومن عمان الى البحرين!؟ ومن الكرامة الى كفر اسد !!
وهل اكرم ممن يقدم المرء دمه
لقد مات عبود سالم يرحمه الله بعد ان افتدى (الجيش) بكل ما يملك فأكرمه الجيش في حياته وأعزه في مماته واخلص للعرش والملك ولم ينقض قسمه فظل على المدى المعزز والمكرم
الاشقاء في مصر ونخبتهم على معنى التبجيل يردون سبب تماسك بنيتهم الوطنية وتميزها الى مجموعة عناصر (اللهجة، والنيل، الازهر، والفرعنة، والمكان، والاسلام) واكاد أن اجزم مثل اليقين أن مرتكزات الوطن الاردني (العرش الهاشمي، والجيش العربي) وما بينهما كله يحتمل الحوار والمراجعة (فهذان) النجمان التي يجب ان تخر لهما الجباه…
اختم بدولة العم ابو سمير رحمه الله و(العم) وصف اردني شهم تتداخل فيه المروءة بالاعتراف بالجميل وليس صفة نسب او رابطة دم وحسب.. وليس احق عندي من وسم احد بالعم اكثر من زيد الرفاعي لدوره المدهش والذي كان امتدادا لدور ابيه اسهاما في تأدية واجب وطني تشرفا بتحمله!!
يمر افي شلايم في كتابه (اسد الاردن) كسيرة انصافية للحسين بكل ما فيها من نقد مرير احيانا، يمر على ذكر زيد الرفاعي ٣٨ مرة كمرافق للحسين في مهمات محفوفة بالمخاطرة وهذا الرقم هو حجم معرفة افي شلايم وليس كل ادوار زيد الرفاعي… ان الجامعة الام الاردنية عليها تقع مسؤولية التاريخ لدور زيد الرفاعي فابوه كان اول رئيس مجلس امناء لها او من رؤساء مجالسها ومدرجها الافخم منسوب الى سمير الرفاعي وزيد الرفاعي اول من استوزر اكاديميا من الجامعة في حكومته الاولى (كامل ابو جابر يرحمه الله) ومن بعد ذلك اضحت الجامعة الاردنية احدى منصات التزويد للدولة برجالتها مثلها مثل الديوان الملكي الهاشمي والبنك المركزي والخارجية والجيش والمخابرات والجمعية العلمية الملكية
كان الفضل في هذا لزيد الرفاعي وان وجود العالم المرهف الاحساس نذير عبيدات على رأس هذه الجامعة يشيع بنا الامل ان نرى قريبا رسائل دكتوراة عن بناة الامة الاردنية (زيد الرفاعي، عبد السلام المجالي، احمد طوقان، مضر بدران، وغيرهم)..
ما اود قوله في هذا المقال الطويل مما لا يروق لدولة الاخ الكبير الجليل عبد الرؤوف الروابدة (اطال الله في عمر ابو عصام) حيث وجهني الى المقالة القصيرة وله في ذلك اسبابه التي اسعى لتلبيتها مع استثناءات توجبها المناسبات.. ان خيمة تقبل العزاء في مدينة الحسين للشباب والتي نصبت احتراما وتبجيلا لرجل دولة علم الاردنيين الصبر والتعالي عن الجراح وحل مشكلات رجل الدولة والدولة نفسها بقانون واحد بركنين (الحب والتسامي) ولا اقول التسامح فالتسامي ارفع سمة من التسامح
اقول هذا الرجل الذي ادى واجبه على اجمل ما تمناه منه رفيق العمر الحسين حين وقف طودا شامخا يبايع الملك الجديد ويبكي روحه التي راحت مع الحسين بدموع خلدت مرحلة تاريخية في حياة الوطن (عاش الملك مات الملك) والرجال الرجال هم الذين يجعلون من الدمع شلال نهر ولاء للعهد الجديد..
بطوي صفحة زيد الرفاعي حين تخطفته يد المنون فان عصرا باكمله قد انتقل الى عالم الغيب ان عصر الرجال الذين كان مجرد ظهورهم لحظة الازمة يريح النفوس ويعلي الهمم وكان زيد الرفاعي في طليعتهم… ذات يوم من ايام الضنك والتلبية الوطنية ربما ان ذلك قد وقع في الثلث الاول من شهر تموز عام ١٩٩٤ م قبل توقيع المعاهدة مع يهود باشهر، كنا سمير وانا قد عدنا من مهمة افتتاح المعبر الجنوبي وكان سمير يسوق سيارته (الجيب شوروكي) وانا جنبه وعدنا عن طريق الصافي وكانت للتو بدا استعمالها، وفي مكان قريب من الفنادق التي اقيمت فيما بعد التقينا بدولة المرحوم (ابو سمير)
بدا على كلينا التعب والارهاق وكنا لم ننم ليومين متتاليين، كان المرحوم دولة العم ابو سمير في طريقه الى تناول فنجان قهوة مع اسرة صديقة تسكن تلك المرتفعات في منزل ريفي بهي ربما ان العائلة كانت من (القواقشة) ضحك بابوية حنونة ساظل اذكرها له بجمال ودعاء وقال تعبانين الشباب ؟!
الله يعينكم واكمل يرحمه الله اليوم صرتو بتشتغلو بالعلن وبوضوح دون خوف ولا قلق !!
لقد مرت علينا ايام قاسية وحكى لنا قصة ستمضي معي الى القبر كان طرز اولائك الرجال هم من جعلونا بتضحياتهم ومرجلتهم نرى
الاردن كله واحة من حب ونعمة من امان في خيمة عزائه رحمه الله زيد الرفاعي فهو يستحق منا وصف (العم ابو سمير)..