معروف في إيران، ولدى متابعي الشأن الإيراني، أن ترشح الراحل إبراهيم رئيسي، في آخر انتخابات رئاسية، قبل 3 سنوات، كان بناءً على الرغبة الشخصية للمرشد الأعلى، علي خامنئي. كان غرض المرشد ليس فقط أن يتولى “رئيسي” السلطة، لكن أيضاً أن يكون خلفاً له، عندما يدنو الأجل، وهو الذي قد بلغ من العمر 85 عاماً.
لذلك وجد “رئيسي” الطريق سهلاً وممهداً أمامه للفوز في انتخابات عام 2021، بدعم المرشد له، لدرجة جعلت كثيراً من المراقبين يصفون تلك الانتخابات بانها كانت “مُهندّسة” سلفاً، أو بالمعنى الأوضح “مزورة”، لإيصاله إلى كرسي الرئاسة برغبة المرشد نفسه.
التوريث والصراع السياسي:
لكن هذه الثقة التي حظي بها “رئيسي”، والتي كان من المفروض أن تمهد له الطريق كي يخلف المرشد، هي نفسها أثارت عليه الأحقاد وتسببت بصراع سياسي على السلطة، ربما كان من نتائجه وضعُ حدٍ لحياته. وكان الطرف الآخر في هذا الصراع هو نجل المرشد، “مجتبى علي خامنئي”، البالغ من العمر 55 عاماً، الذي اكتسب نفوذا سياسياً كبيراً رغم أنه لا يملك أي منصب رسمي.
رئيسي والصعود من خلال القضاء:
كان “إبراهيم رئيسي” من أكثر السياسيين الإيرانيين تأهلاً من حيث التحصيل العلمي، والخبرة العملية في خدمة النظام، ومن حيث التشدد في معاملة الخصوم، وعدم الرأفة بهم. فهو ابن النظام نشأ وترعرع وعمل في كنفه على مدى 45 عاماً. ومن هنا أُتيحت له الفرصة ليتولى رئاسة البلاد، على أمل أن يتولي منصب المرشد فيما بعد.
ولد ونشأ “رئيسي” في مدينة مشهد عام 1960. وقد تتلمذ على يد آيات الله في مدينة قم، منذ أتم الخامسة عشرة من عمره. ولم يكتفي بتحصيله الديني فقد أكمل تحصيله الجامعي حتى حصل على درجة الماجستير في القانون الدولي، ثم درجة الدكتوراة في الفقه والمبادىء.
وقد أمضى “رئيسي” معظم حياته العملية في مجال القضاء، بدءًا من مدعي عام مدينة “كرج” الصغيرة غرب طهران، إلى مدعي عام طهران، إلى رئاسة محكمة رجال الدين، إلى نائب رئيس السلطة القضائية، إلى مدعي عام عموم البلاد، إلى أن عينه المرشد، عام 2019، رئيساً للسلطة القضائية، ثم تولى الرئاسة بعد ذلك.
ثقة المرشد بـ “رئيسي”:
لقد بلغت ثقة المرشد العام “علي خامنئي” بإبراهيم رئيسي أن عينه، عام 2016، رئيساً لـ “مؤسسة العتبة الرضوية المقدسة”، إحدى أغنى المنظمات الدينية، حيث تُقّدر ثرواتها، مع عشرات المؤسسات المثيلة، بمئات مليارات الدولارات، وتعتبر العمود الفقري للاقتصاد الإيراني. وجميع هذه المؤسسات مرتبطة مباشرة بمكتب المرشد، الذي يعين من يدير كلاً منها، لما لهذا المنصب من أهمية دينية وقوة مالية، تجعل من المدير أحد صناع القرار في إيران. وقد ظل “رئيسي” يدير “مؤسسة العتبة” إلى أن تولى كرسي الرئاسة.
وبناء على هذه الثقة به، من قبل المرشد، كان “رئيسي” يُعتبر خليفته المتوقع، وشخصيةً مقبولةً من قبل منظومة الحكم، ما عدا شخصُ واحد كان يتربص به، ألا وهو “مجتبى علي خامنئي”، نجل المرشد الأعلى، الذي يحلم أن يخلف والده، ويعد العدة لذلك إلى أن ظهر “رئيسي” كطامح آخر ينافسه.
الصراع على السلطة:
وخلال السنوات الثلاث التي أمضاها “رئيسي” في كرسي الحكم كان الاثنان عملياً يقتسمان إدارة البلاد. فكان “مجتبى يحكم ثلثي البلاد”، بمساعدة قسم كبير من الحرس الثوري. فهو من يدير السياسة الخارجية، وهو من أبرم الاتفاق مع السعودية، وهو من يدير المفاوضات الأمريكية الإيرانية، وهو من يعين السفراء، وهو من يريد استكمال السيطرة على الحرس الثوري، وهو من يدير المشهد العام، دون أن يكون له صفة رسمية. وهكذا فإن إيران كانت نائمة على صراعٍ خفيٍ على السلطة، بين ابن المرشد الأعلى ورئيس البلاد المُنتخب.
شرخٌ حاد في الحرس الثوري:
من يريد أن يسيطر على إيران عليه أن يسيطر على الحرس الثوري ليستقر له الوضع. ومن هنا فقد ركز “مجتبى” على الهيمنة على الحرس الثوري. وكان من نتيجة ذلك أن حدث إنقسامٌ حادٌ بين قادة الحرس الثوري، بين مؤيدٍ لـ “مجتبى” وبين معارضٍ له. فقد سُربت وثيقةٌ، بداية 2023، تضمنت محضر إجتماعٍ مغلقٍ بين المرشد وكبار قادة الحرس الثوري. فكان منهم من اشتكى من “مجتبى” لفرض نفسه كخليفة لوالده، ومنهم من كان يؤيده ويشيد به، ويقف ضد منافسه “رئيسي”.
فقد اشتكى عدد منهم للمرشد “من أن نجله “مجتبى” لا يزال يتابع مشروع خلافة والده، ويتدخل في العزل والتنصيب على أعلى المستويات، داخل جهاز الحرس الثوري، بعد أن أقال “حسين طائب من استخبارات الحرس الثوري”. كما اشتكوا أن نجله بدأ “مرحلة تجاوز إبراهيم رئيسي”. فيما وصف آخرون وجهات نظر “مجتبى” بأنها “تضر بالبنية الأمنية للبلاد”.
وهناك من قادة الحرس الثوري من دافع عن “مجتبى” قائلين “إن صعوده إلى السلطة يهدف إلى تسهيل الأمن”. فيما أيد آخرون “تجاوزه لإبراهيم رئيسي”، واصفين الحكومة بأنها “غير متعلمة”. ورددوا قول نجل المرشد “أن المديرين المعينين من قبل “رئيسي” في الحكومة لا يتمتعون بالقدرة والمعرفة وقد أوصلوا البلاد إلى طريق مسدود اقتصادياً”.
خلاصة القول: التوريث يقود إلى تفكك النظام:
والأهم والأخطر، في هذا الشرخ داخل الحرس الثوري، أن هذه القوة الضاربة في البلاد، التي تحافظ على بقاء، واستقرار، وتماسك نظام الحكم، قد وجدت نفسها وسط صراع سياسي على خلافة المرشد الأعلى، بين ابنه “مجتبى” وبين رئيس جمهوريته، إبراهيم رئيسي، الذي اختاره المرشد بنفسه، وكسب ثقته.
ثبت من التجربة، خلال العقدين الماضيين، أن مبدأ التوريث في أنظمة الحكم الجمهوري يقود إلى تفككها وإنهيارها، مع وجود أوضاع متردية تصاحب ذلك. فقد انهار نظام مبارك في مصر بسبب نية التوريث، وانهار نظام القذافي بسبب نية التوريث، وانهار نظام علي عبد الله صالح، في اليمن، بسبب نية التوريث. فهل يا ترى جاء دورُ إيران، خاصةً أن كثيرين ربطوا بين مقتل الرئيس الإيراني وبين الصراع الذي احتدم على السلطة؟