صدى الشعب – كتب داود عمر داود
الإعلامي أحمد الشيخ صحافي بارع، رفيع الثقافة، وهو من الإعلاميين الذين واكبوا تأسيس قناة الجزيرة، ومن أبرز من عملوا فيها. نشر قبل أيام تحليلاً سياسياً، في موقع القناة، بعنوان (من يظلّ في الظل لا ظل له)، دافع من خلاله عن إيران في وجه اللغط الذي ثار حولها مؤخراً، والسخرية التي طالتها، بعد غارتها الجوية على العدو الصهيوني.
زاوية النظر
والكاتب يفكر، ككثير من الناس، الذين ينظرون إلى كل شيء في الدنيا من “زاوية القضية الفلسطينية”. فمن يقول لنا إنه مؤيد لفلسطين نحبه ونعشقه، من شدة حبنا وتعلقنا بأرضنا المباركة، حتى لو كان القائل غير صادق. لذلك ينظر كثيرون إلى إيران، باعتبارها قوة إقليمية مؤيدة للقضية الفلسطينية، وعلى أن تحرير فلسطين سيكون على يدها. تماماً كما كان يتوهم أجدادنا في الماضي، أن من سيعيد لنا الوطن السليب هم “أصحاب العمائم السوداء” القادمون من الشرق.
وعليه فإن كثيرين ينظرون إلى إيران على أنها ليست مثل باقي دول المنطقة، فهي قد تحررت من هيمنة الاستعمار الغربي، بمجرد أن وصلها الخميني، في الأول من شباط/ فبراير، عام 1979، على ظهر طائرة فرنسية، حطت به في مطار طهران، قادمة من باريس، بعد أسبوعين من مغادرة الشاه محمد رضا بهلوي.
استفاقة أم تسليم واستلام
وهكذا اعتبر الكاتب أن ثورة الخميني كانت “استفاقة إيران” خلّصت البلاد من الهيمنة الغربية. وهذه مغالطة كبيرة يقع فيها كثيرٌ ممن ينظرون إلى إيران على أنها خارج نطاق التبعية، منذ أن غادرها الشاه، على يد الجنرال الأمريكي “هاوزر”، الذي صعد به درجات سُلم الطائرة، التي غادرت به إلى غير رجعة، في 16 كانون ثاني/ يناير، 1979.
“الجنرال هاوزر”، الذي اختاره شخصياً لهذه المهمة الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر، لعب دوراً محورياً في تحييد الجيش الإيراني آنذاك. حيث أوضح “هاوزر” أن كارتر أرسله “ليتحقق من أن يكون نقل السلطة في إيران سلسا … وأنه لن يُقبل بأي انقلاب عسكري ولا أي إجراء يعرقل مسار سيطرة الخميني على البلاد”. وقد كلفت عملية تحييد الجيش الإيراني إعدام بضع مئات من الجنرالات، ليلة 9 شباط/ فبراير 1979، للتخلص من أي معارضة محتملة، لنظام الخميني.
جاء خلع شاه إيران، على يد الأمريكيين، بثورة شعبية، حملت بوضوح البصمة الأمريكية. كان أهمها تحييد الجيش، ثم التسهيلات التي قدموها للخميني، في باريس. أبرزها أن شركة الاتصالات الأمريكية AT&T كانت تنقل إلى إيران، أولاً بأول، خطب الخميني مسجلة على أشرطة كاسيت، كانت بمثابة وقودٍ للثورة، زادتها اشتعالاً، وحركت الجماهير. فكان يتم نقل التسجيلات الصوتية إلى كل مدينة في إيران، وهناك كان يجري توزيع ملايين النسخ منها على الناس لتصلهم باليوم نفسه. وقد لعب شريط “الكاسيت” دوراً حاسماً في التحريض على الشاه، وبالتالي نجاح الثورة.
ومع خروج الشاه انتهت حقبة الهيمنة البريطانية على إيران، فيما شكل مجيء الخميني بداية الهيمنة الأمريكية، التي ما زالت مستمرة لغاية الآن. فإيران الملالي أصبحت أداة طيعة بيد أمريكا، كما كان نظام الشاه محمد رضا بهلوي، أداة طيعة بيد الإنكليز، الذين أقاموا النظام الإمبراطوري في إيران برئاسة والده الشاه رضا بهلوي، عام 1925.
لقد بلغ غضب الأمريكيين على الشاه درجة أنهم منعوه من أن يتخذ من بلادهم منفىً له، فطردوه من أراضيهم طرداً. ولم يلق الشاه بلداً يستقبله إلا مصر أنور السادات.
وهكذا كان تغيير نظام الحكم في إيران عبارة عن عملية تسليم واستلام منظمة، بإشراف أمريكي مباشر، من خلال “الجنرال هاوزر”، وبتكليف من الرئيس كارتر شخصياً. فالنظرة إلى إيران على أنها لم تعد “في الظل”، أي أنها خارج نطاق النفوذ الغربي، هي نظرة واهمة خاطئة، غير واقعية، وغير صحيحة، وبعيدة كل البُعد عن الحقيقة. فالكاتب يشيد بـ “استقلال إيران”، وبُعدها عن هيمنة الغرب، بينما يشكك في استقلالية باقي دول الإقليم. وهذا مخالف للواقع.
النفوذ الغربي طاغ ٍ في منطقتنا، وكلنا في الهم شرق، كما يقولون. إذ أنه من خلال المنافسة الشرسة، بين دول الغرب، تحاول كل منها الاستحواذ على النصيب الأكبر من النفوذ والثروة. وهذا هو جوهر وديدن الصراع بين الغربيين. فهم الآن لا يهمهم تغيير الخرائط، كما فعلوا في الماضي، بقدر ما يهمهم تغيير الولاءات.
«تصدير الثورة»
يقول الكاتب إن إيران “استعادت ظلها فامتد إلى بقاع ليس فيها ظلال أصحابها”، بمعنى أن إيران استقلت تماماً ولم تعد تحت الهيمنة الغربية، وأخذت تتوسع وتتمدد مستغلة ضعف واستكانة المنطقة العربية. وهو هنا يشير إلى سيطرة إيران، لغاية الآن، على أربع دولٍ عربية، هي العراق وسوريا ولبنان واليمن.
لكن الكاتب نسي حقيقةً مفادها أن إيران لم تكن تستطيع اختراق “الجبهة الشرقية” إلا بعد أزال الأمريكيون نظام صدام في العراق، الذي كان بمثابة خط الدفاع الأول عن المنطقة العربية، أعاق “تصدير الثورة”، لقرابة ربع قرن، قبل أن يفتح الأمريكيون الباب، على مصراعيه، أمام التوسع الإيراني، لدرجة أن قادة إيران أخذوا يتبجحون أنهم قد أعادوا أمجاد الإمبراطورية الفارسية القديمة.
وهذا بالضبط ما عبر عنه بكل صراحة “بول بريمير” الحاكم الأمريكي الذي تولى تسليم العراق إلى إيران، على طبق من ذهب. إذ قال في مقابلة مع قناة “الجزيرة” إن استراتيجية بلاده تقوم على مساعدة ملالي طهران بإعادة إقامة إمبراطورية فارس، على حساب العرب والمسلمين. موضحاً أن هيمنة المسلمين لأكثر من ألف عام تكفي، كما قال، وأنه حان وقت الهيمنة الفارسية.
صراع وجود لا صراع حدود
وهكذا نستنتج أن الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة تقوم على عودة إمبراطورية فارس الغابرة على حساب الوجود العربي الإسلامي. بدليل ما جرى من قتل وتهجير للمسلمين، في البلدان التي وصلها نفوذ إيران، ثم التغيير الديمغرافي، بإحلال سكان جدد من غير العرب والمسلمين. ومن يريد أن يغمض عينيه عن هذه الحقيقة فهو واهم، فقد جعل الإنكليز من إيران “شرطي الخليج”، بينما منحها الأمريكيون نطاقاً أوسع لتمدد نفوذها، وجعلوا منها “شرطي الإقليم”