صدى الشعب – كتب فيصل تايه
خطاب جلالة الملك الذي ألقاه في أروقة الأمم المتحدة مساء الثلاثاء لم يكن مجرد اطلالة بروتوكولية او استعراضاً دبلوماسياً عابراً ، بل صوتاً عالياً يصدح في وجه صمت عالمي ، وحضوراً أردنياً يفرض نفسه كضمير حي يطالب بالعدل في زمن يسيطر عليه النفاق السياسي ، فقد جاء الخطاب محملاً بجرأة غير مألوفة، يكشف الازدواجية المقيتة التي تحكم تعامل القوى الكبرى مع القضايا الإنسانية، ويضع المجتمع الدولي امام مرآة تعكس قبح ازدواجيته، فلا مجال بعدها للتبرير او التهرب.
ففي لحظة بدا فيها العالم غارقاً في الخطابات الرتيبة والتصريحات الخشبية، اعاد جلالة الملك وضع القضية الفلسطينية في مركز المشهد الأممي ، فلم يتحدث عن تفاصيل او ارقام ، بل عن حق اصيل لشعبٍ ما زال يعيش تحت نير الاحتلال والحرمان من ابسط مقومات الكرامة الإنسانية ، فكانت اللغة حاسمة، قاطعة الطريق على كل من يحاول تسطيح المأساة او اختزالها في نقاشات شكلية ، فقد قال جلالته بوضوح ان استمرار تجاهل هذه القضية هو خطيئة سياسية وأخلاقية، وجريمة يحاسب عليها التاريخ قبل أن يحاسب عليها الضمير.
ما يميز الخطاب انه لم يقف عند حدود التوصيف او الإدانة، بل ذهب الى ما هو بعد ، حين قدم الأردن كدليل عملي على ان الأخلاق لا تزال قادرة على ان تتحول إلى فعل ، ببلد صغير في موارده، كبير في مواقفه، فتح أبوابه للمساعدة، وترسل جيشه وأطباءه الى قلب الخطر لإنقاذ المدنيين، ليؤكد ان الإنسانية لا تقاس بحجم الدولة بل بعمق التزامها ، وبهذا المعنى ، تحول الأردن من مجرد طرف اقليمي الى شاهد حي يفضح صمت العالم ويقدم نموذجاً للفعل بدل الاكتفاء بالشعارات.
لم يكن حديث جلالة الملك عن السلام خطاباً إنشائياً او دعوة لتسوية ظرفية، بل إعادة تعريف لمفهوم السلام نفسه ، حين قال : ان السلام ليس هدنة مؤقتة ولا غطاء لواقع الظلم ، بل هو عدالة شاملة وحقوق مصانة وكرامة مضمونة ، فكل ما عدا ذلك ليس سوى استمرار للجرح المفتوح الذي ينزف منذ عقود ، وهنا كان التحذير شديد الوضوح ، اذ ان العالم ان استمر في هذا الجمود، فإنه يرتكب خطأً تاريخياً سيدينه المستقبل قبل أن تحاسبه الشعوب.
في اعتقادي ان الخطاب لم يكن صدى للغضب العربي فحسب، بل كان مشروعاً اخلاقياً كاملاً، استنهض الضمير العالمي ووجه نداء إلى كل من ما زال يملك ذرة من مسؤولية ، فقد كشف جلالة الملك وبلغة صريحة ومباشرة، ان الوقت لم يعد يسمح بالمناورات ولا بترف الصمت، وان الأمم المتحدة، ان ارادت الحفاظ على مصداقيتها، مطالبة بأن تتحرك بالفعل لا بالكلمات.
واخيراً ، فان الصوت الأردني بدا مختلفاً ، في تلك القاعة المزدحمة بالخطابات ، اذ استند الى قوة الموقف وصدق الكلمة ، فمن هنا تكمن جاذبية الخطاب ، اذ يضع الحقائق على الطاولة بصلابة ووضوح .
خطاب جلالة الملك كان خطاباً بحجم التحدي ، واقرب ما يكون إلى وثيقة أخلاقية تسجل باسم الأردن في تاريخ الأمم ، لأنه جمع بين شجاعة المكاشفة ورصانة القائد الذي يطالب بالعدل باسم الجميع.
والله والي التوفيق






