صدى الشعب _ أسيـل جمـال الطـراونــة
في ظل ما يشهده العالم من تصاعد في وتيرة الحروب والكوارث الطبيعية، تتزايد التحذيرات من تبعات هذه الأزمات على الصحة النفسية للأفراد، لا سيما في المناطق التي تتعرض بشكل مباشر أو غير مباشر للأحداث الصادمة.
وفي هذا السياق، تؤكد استشارية العلاج النفسي والسلوكي الدكتورة أمل الكردي أن تأثير الأزمات النفسية يرتبط بعوامل متعددة، منها مدى الاستعداد النفسي للسكان، وطبيعة الكارثة، وخلفياتهم النفسية والاجتماعية.
توضح الدكتورة الكردي أن كيفية تأثير الحروب والكوارث الطبيعية على الصحة النفسية للأفراد بشكل عام تنقسم إلى شقين، تبعًا لواقع المنطقة المتأثرة ، ففي حال كانت المنطقة غير معتادة على الكوارث أو الحروب، فإن وقع الصدمة يكون أشد، إذ لا يوجد أي نوع من التحضير أو التهيئة، ما يجعل الأثر النفسي عاليًا جدًا وقويًا، لأن المفاجأة تُعمّق الصدمة، وتزيد من حجم الخسائر النفسية.
أما في المناطق المنكوبة ، سواء بسبب كوارث طبيعية أو حروب متكررة، فإن الأفراد غالبًا ما يكون لديهم نوع من التهيئة أو الخبرة السابقة، مما يخفف نسبيًا من وطأة الصدمة، ورغم ذلك، يبقى الأثر النفسي قائمًا، لكنّه يكون أخفّ حدّة نظرًا لوجود نوع من التأقلم أو الاعتياد على الأزمات.
وعن أكثر الأعراض النفسية التي تظهر بعد الأزمات، تشير الكردي إلى أن اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) يُعدّ الأبرز، ويتبعه الاكتئاب. وتشرح أن اضطراب ما بعد الصدمة يتمثل في مجموعة من الأعراض التي تظهر بعد التعرّض لحدث صادم أو كارثي، مثل اضطرابات النوم، وتغير نمط الأكل والحياة، والانغلاق الاجتماعي، والانسحاب من المحيط، إضافة إلى شعور عام بالرفض أو الإنكار لما حدث، وفقدان الطاقة أو الدافع للمشاركة في النشاطات اليومية. في بعض الحالات، يفقد الشخص رغبته في الاعتناء بنفسه، وتتراجع قدرته على التفاعل مع من حوله.
أما فيما يتعلق بكيفية مساعدة الأهل لأطفالهم في ظل الأزمات، فتؤكد الكردي على أهمية التهيئة النفسية، مع الأخذ بعين الاعتبار الفروقات بين الأطفال من حيث العمر ومدى الإدراك، فالتوعية لا تتم بشكل موحد، بل ينبغي أن تُصاغ بطريقة تناسب مستوى استيعاب الطفل، فمثلًا لا يُمكن الحديث مع طفل في العاشرة بنفس طريقة الحديث مع مراهق في الخامسة عشرة.
وتوضح أن الطفل الذي لا يدرك خطورة ما يحدث، يحتاج إلى أسلوب توعوي مبسّط، يراعي قدرته على الفهم، ويقدم له المعلومات تدريجيًا، بشكل يهيئه نفسيًا دون أن يثير فزعه.
وفي رسالة واضحة إلى الأهالي الذين يستخفون بخطورة الأزمة، تقول الكردي إن الأهل يمثلون نموذجًا حيويًا في حياة أبنائهم، فتصرفاتهم تُعدّ رسائل مباشرة يتلقاها الأطفال دون الحاجة للكلام. على سبيل المثال، حين يشاهد الطفل والده يستهتر بإجراءات السلامة ويتجاهل صفارات الإنذار، سيقوم بتقليده تلقائيًا، من هنا، تدعو الكردي الأهل إلى أخذ دورهم التوعوي بجدّية، ومراعاة التأثير الكبير لسلوكياتهم في تشكيل وعي الأبناء، حتى في أبسط التصرفات، مشددة على ضرورة أن ينقل الأهل رسالة الالتزام والانضباط بشكل صادق ومسؤول، لأن الطفل يراقب كل شيء ويتعلّم بالملاحظة، لا بالكلام وحده.
من جهتها، ترى الاستشارية النفسية والتربوية حنين البطوش أن الحروب والكوارث تُعد من أشد الصدمات النفسية الجماعية، لما تُحدثه من زعزعة في الشعور بالأمان والاستقرار، كما تربك التوازن النفسي للفرد، وتضعه في حالة دائمة من التوتر والتأهب.
وتُشير إلى أن أبرز الأعراض النفسية تشمل اضطراب الإحساس بالأمان، صعوبة النوم، التهيّج العصبي، الحساسية من الأصوات، إلى جانب الشعور بالعجز وفقدان السيطرة، خاصة عندما يعجز الفرد عن حماية نفسه أو أحبائه.
كل ذلك يؤدي إلى مشاعر إحباط وضعف في الدافعية، وقد يتطوّر إلى اكتئاب أو حتى أفكار انتحارية.
وتضيف البطوش أن من تعرضوا لصدمات شديدة قد تظهر عليهم أعراض اضطراب ما بعد الصدمة بشكل واضح، مثل الكوابيس، الذكريات المؤلمة، الانعزال الاجتماعي، أو نوبات الغضب والانفعال غير المبرّرة.
وتنعكس هذه الأعراض على الحياة اليومية من خلال ضعف التركيز، تراجع الأداء، اضطرابات العلاقات الاجتماعية، أو اللجوء إلى سلوكيات هروبية مثل الإدمان أو العنف أو العزلة.
تشير البطوش إلى أن تأثير الأزمات لا يتساوى بين الفئات العمرية، فالكبار غالبًا ما يظهرون تماسُكًا خارجيًا، لكنهم يعانون داخليًا من القلق والشعور بالذنب، في حين أن الأطفال يعبرون عن الصدمة من خلال سلوكيات غير مباشرة، مثل التبوّل اللاإرادي أو نوبات الغضب أو الانعزال أو التراجع في الأداء الدراسي. أما المراهقون، فيتأرجحون بين التمرّد والانغلاق، وقد يشعرون بالغضب من الكبار أو يفقدون الثقة بالواقع.
ولهذا، تشدد البطوش على ضرورة وجود دعم نفسي مخصص لكل فئة عمرية، بما يتناسب مع قدرتها على الفهم والتعبير، مؤكدة أن الطفل يعبّر بسلوكه، والمراهق بمزاجه، والبالغ بصمته.
تشير البطوش إلى أهمية دور الأسرة في منح الأطفال الشعور بالأمان العاطفي خلال الأزمات، مبينة أن الأطفال لا يحتاجون إلى تفسيرات منطقية بقدر حاجتهم إلى الاحتواء، والحضور الهادئ، والكلمات الطمأنينة.
وتوضح أن الأطفال يراقبون تصرفات الكبار بدقة، ويستمدّون شعورهم بالأمان من هدوء الأهل، لا من قوة الحدث ذاته ، لذا، توصي البطوش بأن يظهر الأهل بثبات نفسي قدر الإمكان، حتى وإن كانوا خائفين، وأن يستخدموا لغة مبسطة لشرح ما يحدث، مع تقليل التعرض للمشاهد الصادمة، والحفاظ على روتين يومي يُشعر الطفل بالاستمرارية.
وفيما يتعلق بأهمية التوعية المجتمعية في مناطق النزاع والكوارث، تؤكد الكردي أن الصحة النفسية لا تنفصل عن الصحة الجسدية، وأن وعي المواطن يشكّل خط الدفاع الأول في مواجهة الأزمات النفسية.
وتوضح أن دور التوعية يصبح مضاعفًا في حالات الحرب والكوارث، حيث يكون توقّع ظهور الاضطرابات النفسية أعلى من الوضع الطبيعي، ما يتطلّب دورًا فاعلًا من الأخصائيين النفسيين، والإعلاميين، والمؤسسات التعليمية، وحتى المساجد والجامعات. فالجميع مسؤول عن نقل الرسائل التوعوية بطريقة صحيحة ومحترفة، تقلل من خطر الانهيار النفسي الجماعي.
تلعب المدارس دورًا متزايد الأهمية في دعم الطلبة نفسيًا بعد الأزمات، إذ تُعدّ بيئة آمنة يمكن من خلالها رصد التغيرات السلوكية وتقديم الدعم المناسب، خاصة من خلال الأخصائيين النفسيين والمعلمين المدربين على اكتشاف العلامات المبكرة للاضطراب.
ومن جهة أخرى، يتعاظم دور الإعلام في تشكيل الوعي الجمعي وتوجيه الرسائل النفسية للمجتمع، لا سيما في أوقات الأزمات، حيث يمكن للإعلام أن يساهم في تهدئة مشاعر الذعر وتعزيز الأمل والصمود من خلال تقديم محتوى متوازن وهادف، بعيد عن التهويل أو الإثارة.
يشير المختصون إلى أهمية التدخل النفسي المبكر في ساعات أو أيام ما بعد الأزمة، باعتباره خط الدفاع الأول ضد تفاقم الأعراض وتحولها إلى اضطرابات مزمنة.
ويشمل هذا التدخل عدة أشكال مثل الإسعاف النفسي الأولي، الدعم الجماعي، والرصد المبكر للحالات الأكثر هشاشة.
وتكمن أهميته في منع الانهيار، وتوجيه الأفراد نحو طرق صحية للتكيّف، وتقديم الرعاية المناسبة لمن هم في أمسّ الحاجة إليها.
وتبقى الصحة النفسية عنصرًا أساسيًا في التعافي، لا تقل أهمية عن الغذاء والمأوى، وإذا كانت الحروب تُدمر الجدران، فإن التدخل النفسي والتوعية يُعيدان ترميم النفوس، فالبشر لا ينهضون من الدمار بالأدوات فقط، بل بالأمل، والوعي، والدعم، والقدرة على منح بعضهم بعضًا فرصة للبدء من جديد






