كتب – احمد سلامة
صدى الشعب – في ٦/٢٢ عام ١٩٩١ م كتبت مقالة في زاوية السبعة ايام، بالغالية صحيفة الرأي لمناسبة استقالة دولة المرحوم الرئيس مضر بدران، بعنوان “إلى مضر المواطن، وليس لبدران الرئيس” وختمت ذلك المقال بفقرة فيها ابتهال ومحبة (فيا حسن الختام) كانت مقالتي تنشر يوم السبت، وهو امتياز لم يمنحه رئيس التحرير لي كجائزة ولكن لأنني في ذلك الوقت تشرفت باني كنت واحدا من الكتاب المعترف بهم لتلك المرحلة.
ابلغني (ابو العزم) رحمه الله، ان دولة الرئيس قد ابدى ارتياحه لمقالتك وبينا نحن في سيرة ذلك الرجل الحصيف الوطني الذي اقنع الاردني بعمق وطنيته وبسيط طرحه ان يسيرهم (زوجي وفردي) وتلك ظاهرة لمصداقية القادة لم تدرس بعد.. وكان ابو العزم يستذكر رحلة (الراي) في عهدة (دولة مضر باشا) واذا بهاتف رئيس التحرير يطلبني عن طريق مقسم الراي، وكان ابو عزمي يعرف ان مضر باشا، سيحكيني كان ذلك خارج طباعه، ولم يعرف عنه نشاطه الاجتماعي مع الصحفيين قط
قال لي (عبد الرحمن الحياري / مأمور مقسم الراي الخلوق والمهني): دولة مضر باشا بدو اياك !!
اتذكر.. انه كان قد ذهب مع اهل بيته للعقبة وخاطبني كانني ولده او شخص حميم في علاقتي به.. وهي المرة الاولى والاخيرة التي جاءني صوته عبر الهاتف
مرحبا احمد !.. هكذا استهل حديثه يرحمه الله… قرأت مقالك اليوم وفهمت انه خلص تقاغعد نهائي يعني !؟ لا رجعة عنه!!.. واضاف مداعبا (عاد انتو بالراي معلوماتكوا ما بتخر منها المي … وضحك واضاف، والله انك ريحتني في حسن الختام هذه وضحك بترو
وشكر بامتنان وانهى دعاء اب لابنه !!!
لم اجد حين توفاه الله اجمل من ان اعيد نشر ذات المقال لانه كان بصراحة شهادة كاتب في رجل دولة لم يتكرر في حياة جيلنا!!
كان ذلك في (عمون) العزيز الذي هو منبرنا وماوانا وحده !!!…
وفي ذكرى وفاته رحمه الله وددت ان اذكر بعض حكايا عنه عشتها مباشرة…
نحن احوج ما يكون من الاستذكار الحميد لرجالات دولتنا فقد قطعت (مدرسة الولاء الانساني لعلوم الرذاذ في التواصل الامريكي الرديء) اواصر الناس ببعضها واصطنعت من كل اللغات حروفا سوقية اضحت هي القاموس المعاش وما يسمى (المؤثر) لكني على يقين ان مدرسة الله سبحانه الحسنى التي نتشرف الانتماء اليها ستعيد الماء للنهر ولو بعد حين…
وبهذا المعنى…
ان الزميل والصديق والاستاذ (محمد خير الرواشدة) قد قدم عملا وطنيا جليلا حين تمكن وباعانة راجحة من السيدة (ريم) كريمة مضر باشا البوح والافصاح عن صندوق وطني عامر هو قلب (ابو عماد) ولو لم يفعل ذلك لكان الاردن قد خسر (ركاية في المعرفة نبيلة)
بمروءته وحده.. جمعني الاستاذ المحامي الصديق المعتق ابن العز ايمن ابو شرخ بالسيدة ريم بدران على حين فجأة امس، وتذاكرنا طويلا في قضايا تتعلق برحمة والدها، ورئيس وزرائنا مضر باشا
وعقب العزاء اصطحبني (ابو سارة / الاستاذ ايمن) لتقديم واجب العزاء في المرحومة (ام جعفر زوجة السيد الانيق رجل الامن والحب رجائي باشا الدجاني) ومع طريق الاياب للمنزل انتابتني حالة من الصمت الداخلي عجيبة لانه وبمنتهى الصراحة والبراءة كان الرجال والنساء قبلنا اخير منا ونحن اخير ممن هم بعدنا وذلك امر يحزن
حين تدخل الى قاعة العزاء ( رجالا ونساء ) في منتهى التحضر والرقي وترى في القاعة ( حمدي الطباع ، يوسف القسوس ، بسام الساكت ، زياد فريز ، عمر البلبيسي ، ونايف القاضي ) وعشرات اخرين والسيدات القادمات لتقديم واجب العزاء تكتشف عظمة الهاشميين في بناء هذا المجتمع وتكوينه بصورة تشبه تحضرهم كانبل سلالة واعرق تجربة في الوطن العربي وطوال ما قبل العزاء كنا نحوم حول ( مضر بدران ) وهو سردية وطنية عظمى في التكوين الوطني…
بعدها تعود الى الواقع فيقهرك حد الاحباط (التنابز وبعض صغار في اللغة المستعملة ورجالات نفخهم منفاخ خفي لا يمتلكون من الوعي سوى الهواء الذي نفخوا به.. وتصمت لتعبر المسافة بين (الالق وبين الارق) واعود اتعزى بذكرى الكبار فاكتب بعض حكايا عن مضر باشا بدران رحمه الله في ذكرى وفاته…
قبل ان ابدأ… اتساءل في حضرة الاخ الغالي ابراهيم البواريد مدير عام التلفزيون الاردني سؤالا مهنيا: نرى ونشاهد في عالم اليوتيوب المحنون خطابات نارية للمعارضة الوطنية تغطي فترة التحول التاريخي لبلادنا نحو الديموقراطية البرلمانية سنة ١٩٨٩م كل موجودة مداخلته في البرلمان، فخري قعوار عبد المنعم ابو زنط، وغيرهم وغيرهم كثير.. السؤال لماذا لا يصدر التلفزيون الاردني خطاب مضر بدران التاريخي من ارشيفه في ذلك المجلس!؟ ولم لم يعاد انتاج قصص وحكايا رجال الدولة الاردنيين الذين لهم مداخلات مدهشة بحق الاردن، رأي زيد الرفاعي بمجلس التعاون العربي، رأي هاني الخصاونة في فك الارتباط ( محاضرة بفندق الاردن )، رأي صلاح ابو زيد في الاعلام الوطني والاغنية الاردنية، رأي الشريف عبد الحميد شرف في قضية ترشيد الاستهلاك، وغيره وغيره الكثير…
على قد حجمي المتواضع احاول ان استذكر بعض قصص البناة يرحم الله من مات منهم ووهب من عاش بعد العمر والعافية…. ربما ان ذلك وقع عام ١٩٨٢م، اتذكر ذلك لان معالي / دولة احمد عبيدات كان ربما اول مرة يلتقي كوزير داخلية مع جماهير (نقادة) في معية دولة الرئيس (مضر)
كان لقاء دولة رئيس الوزراء وبصحبته وزير الداخلية والبلديات مع رؤساء المجالس البلدية المنتخبة في قاعة مجمع اللغة العربية في الجامعة الاردنية، كنا (مجيد عصفور وانا) من يغطي ذلك اللقاء الحامي
من ابرز مزايا مضر بدران كرجل دولة ان عمقه في بساطته لا يفلسف الامور ولا يلف حولها… كان نجم الحفل ذاك المرحوم (احمد قطيش الازايدة) رئيس بلدية مادبا وهو من قادة الاخوان المسلمين واجمع الاردن كله على خلقه وتقواه.. وقف (الازايدة) وبدأ بتقريع الحكومة ومعاتبة الرئيس وحصر مطالبه بعد طويل مداخلة بما يلي
اغلاق المحافل الماسونية في الاردن لانها مفسدة!!!
اغلاق برك السباحة المختلطة خاصة (مدينة الحسين للشباب) لانها لا يجوز ان تستمر اخلاقيا !!!
واغلاق القناة (السادسة) في التلفزيون لانها تبث افلاما اجنبية تعدم قيم الجيل الجديد.
كأنه الان وكأني به اسمع صوته الذي هدر في القاعة…
كان مضر باشا حين يغضب (تكسو وجهه واذنيه حمرة صاخبة يرحمه الله) لكنه رد بهدوء وبوقار في البداية من ثم (حمرط) كما يقال بالعامية… قال موجها حديثه للازايدة يرحمهما الله: (والله يا بو بلال افتكرت احنا جايين نناقش قصص البلديات وكيفية رفع سوية الخدمة فيها، في قضايا نفايات الناس تشكو منها وعدم نظافة في المدن، والمدن كبرت وعلينا ان نقفز بالخدمة في كل المجالات وهذا واجبكم مو واجب الحكومة تفكر عنكم…
وتنهد ابو عماد وصمت قليلا واستأنف حديثه: اما وقد فتحتلي اياها مناحة وطنية عن الماسونية والسياحة والتلفزيون فانني سارد عليك
الماسونية.. منذ كنت طالبا في جامعة دمشق كان يقال همسا ان اي شخص بدو يتقدم في المناصب في كل الوطن العربي لابد ان ينتمي لـ (الماسونية) وانا بجاوبك الان (محسوبك) بدأ ضابط عدلية في الجيش العربي ووصلت الى رئاسة الوزراء وهو اعلى منصب في الدولة والان اقول لك وعلى رؤوس الاشهاد وامام الاعلام انني لا اعرف الماسونية ولم انتم لها ولا اعرف عنها اكثر من أي مواطن عادي
اذن ما حد بيجبرك تصير ماسوني اذا احد ضغط عليك خبرني خليني احبسلك اياه الان واحنا في هذه القاعة !
السباحة المختلطة.. يا سيدي زوجتي ام عماد لا تذهب للسباحة المختلطة، وانت لا ترسل زوجتك ما حد بيجبرك تروح اذا في ناس بدهم يسبحوا مختلط هذه حرية ليس من واجبنا ان نحد من حريات البشر !!!
التلفزيون والقناة السادسة.. ابلغني احد الاخوان ان مسلسل “مو منيح” يعرض على التلفزيون في القناة المذكورة فتحت على التلفزيون
واذا بفرقة موسيقية محترمة كأنها نمساوية ظلت تعزف طول الليل.. طيب احنا ضد الموسيقى يا شيخ !!؟
كان حواره مع احد قادة الاخوان حوار هادئ وبسيط وفيه اجابات لم يترك ذلك لبطولات عدم الرد
القصة الثانية.. شنت حملة شعواء على الفاسدين والمرتشين في ضريبة الدخل ومن نفذها جهاز المخابرات العامة في عهدة (ابو ثامر / احمد باشا عبيدات) والطريقة التي نفذت فيها كانت حديث المدينة وتخريع لكل من يفكر الاعتداء على المال العام واعتقل قرابة الثمانين شخصا كان منهم احد اقرباء او اصهار دولة الرئيس وذهب القوم له متشفعين بحكم رابطة القرابة او المصاهرة.. كان جوابه (مدرسة في الحب الوطني والانساني) قال لمن جاء يلتمس الشفاعة (طيب اذا كان قريبي هذا المرتشي) ليش ما فكر بانه رح يضرني لما يفعل فعلته
بيننا انا لازم اسامحه وحياتك لاغلظ عليه العقوبة بسبب ذلك
الملك وصدام ومضر والهلال !!!
ربما انها في الاشهر الاولى من تولي جلالة الملك سلطاته الدستورية قد عقدت القمة العربية في عمان بقيادة جلالته.. وفوجئ الحضور بكلمة مندوب الرئيس صدام حسين في ذلك الوقت، بأن شن حملة شعواء على النظام العراقي الملكي وكانت كلمة غير موفقة ابدا…
كنت يومها اكتب في الهلال الاسبوعية ورئيس تحريرها الاخ الحبيب عبد الله العتوم، وكتبت مقالا مدججا بالخلق الوطني الرفيع وتعلوه كل عناصر الغضب والاحتجاج ضد النظام العراقي، ورغم كل موقفنا المساند والداعم للعراق ببراءة (ومن دون ناقلات نفط وسواها) الا انني غصت في اعماق النقد اللاذع للحكم العراقي وكانت هي المرة الاولى والاخيرة التي وجهت نقدا لنظام صدام حسين واتذكر ان العنوان كان (سيادة الرئيس.. ألا لا يجهلن احد علينا)
وجد المقال استحسانا عاما إلا من مضر باشا رحمه الله.. في اليوم التالي لنشر المقال هاتفني عند الصبح المبكر (عطوفة السيد احمد العتوم ابو مهند) اطال الله في عمره، وبطريقته الجذابة قال لي (مطلوب مني اعتقلك انت وعبدالله الساعة العاشرة نلتقي في بيت دولة ابو عماد بده اياكم ضروري) صدعنا للامر ذهبنا عبدالله بيك وانا وكان ابو مهند قد سبقنا الى الزيارة.. رحب بنا دولته برسمية تشوبها البشاشة وباشر الحديث في كل القضايا بدءا من المشمش المربى حتى قصة ابو داود ودون المرور على ما يريده، ونحن واجمين منتظرين ما يريده دولته (منا) بعدين اجرى عطوفة ابو مهند مداخلة قائلا (ابو عماد ممكن تطخ جوز هالكلام للشباب نشفت ريقهم يا رجل!!) وضحك الجميع
هكذا بعد ان اعتدل وادار كل عينيه الينا… يا عبدالله انا بعرفك وانت ابن الدولة وخدمت بالاعلام طول عمرك ما كان لازم مررت مقالة (احمد) فسألته من توي: ليش يا باشا احنا ما غلطنا!!
وراح يعلمني قائلا: اسمع يا احمد انت بتعرف انا احترم قلمك ويكفيك فخرا انك حظيت بتبني جلالة الملك المرحوم سيدنا لقلمك، وهو شرف لم ينله احد من قبلك ولا بعدك… كان لا يجوز ان قلمك يقع في هذا الخطأ (الزلمة / يقصد طه ياسين رمضان او عزت الدوري نسيت الان) قصد النيل من نوري السعيد وليس من الحكم الهاشمي وانا لما اكون رئيس وزراء واخطئ فتبعة الخطأ علي مو على سيدنا.. وصدام الذي يقف في وجه الصهاينة لا يجوز ان نجرمه او نعاتبه بكفيه يلي فيه)
وختم، الحكم الملكي في العراق انتهى، نحن نحتفل في كل ١٤ تموز بانتهائه، شو المشكلة يقول العهد السابق…
اجبته رحمه الله، قلت له دولة الرئيس ملاحظاتك على راسي لكن كان فيه تطاول واستقواء على ملك بعهد جديد وفيه فظاظة ان يقول العراقيون ما يقولونه في عاصمة بلدنا اما ان الاردنيين يحتفلون فانا الي بحالي بحياتي ما ذهبت إلى سفارة لا لاحتفال ولا سواه ولن ادخل اي سفارة لان الكاتب والصحفي ليس من اختصاصه زيارة السفارات
وانا احب صدام وكل مواقف الهلال دولتك تعرفها لكن احنا في صف الاردن دوما حتى تتوحد الامة
كان حوارا كله نبل واخلاق…
ثمة عشرات القصص لدى كل واحد منا عن رجالات الوطن مطلوب الاسهام في صناعة سردية وطنية في مواجهة الغث والمرض والتعصب
والتزويق الراهن.. مطلوب ان نستذكر الرجال الذين اسهموا في صنع هذا الجمال الوطني
مضر بدران ابو الصوامع فامننا من جوع وابو الجامعات حين فتح للمعارف والعلوم مصاطب وارصفة حقيقية وابو المواقف اليعربية الذي ذهب تحت القصف الامريكي لزيارة العراق وانفجرت احدى عجلات سيارته واكمل في سيارة المرافقة فرفع الرأس عاليا
ومضر ابو الولاء للهاشمية المدرسة القومية التي رفعت شأن البدوي واللاجئ وحصنت كل التفاوتات بالحب وهو ابو القانون الذي لم يسمح في عهده التجرؤ على المال العام
مضر بدران القاضي العنيد وابن جرش المتخرج من الكرك وابن القاضي العدل ووالدته الدمشقية هو كان في محتواه المضمون الوحدوي الاشراقي الذي تخير عبد الرؤوف الروابدة لعاصمة العرب وجعل منها ابو عصام في عهده ومن بعده فتنة العرب واول العواصم في النظافة والخضرة والحب
يا لـ اولئك الرجال كانوا بالفعل جند الثورة العربية الكبرى وحماة النهضة الدائمة يرحمك الله ابو عماد الحر الفذ