صدى الشعب – راكان الخريشا
تعد السرقة بين الأزواج من القضايا القانونية والاجتماعية الحساسة التي تثير اهتمام الرأي العام بين الحين والآخر، لما تحمله من تداخل بين الجانب الإنساني والعاطفي من جهة، والجانب القانوني والعدالة الجزائية من جهة أخرى، فحين يقع الفعل داخل إطار العلاقة الزوجية، يجد المشرّع نفسه أمام معادلة دقيقة بين حماية المال كحق فردي وصون الأسرة ككيان اجتماعي مقدس، ومن هذا المنطلق تناول قانون العقوبات الأردني المسألة في المادة 425/1، التي وضعت ضوابط خاصة تعفي الزوج
وفي هذا السياق قالت المحامية المختصة، هبة أبو وردة، إن قانون العقوبات الأردني، في باب الجرائم الواقعة على الأموال، وتحديدًا في المادة 425/1، يعفي الزوج أو الزوجة من العقوبة في حال ارتكاب أي من الجرائم المنصوص عليها في هذا الباب، بشرطين أساسيين، الأول أن تكون العلاقة الزوجية قائمة قانونًا وقت ارتكاب الجريمة، والثاني أن يكون ارتكاب الفعل للمرة الأولى، وهذه الحصانة التي تُعرف في الفقه الجنائي باسم “الحصانة العائلية”، ليست دائمة، بل مرتبطة بحسن النية، والذي ينتفي تلقائيًا بمجرد تكرار الفعل خلال ثلاث سنوات، باعتبارها فترة فاصلة بين الزلة العابرة والسلوك الإجرامي المتأصل، المشرّع الأردني تبنّى هذا المنطق التشريعي القائم على التفرقة بين الخطأ العارض والعادة الجرمية، ولذلك جاءت الفقرة الثانية من المادة ذاتها لتقرّ تخفيض العقوبة إلى الثلثين من العقوبة الأصلية المقررة للجريمة، إذا ما انتفت شروط الإعفاء الكامل.
وبيّنت أبو وردة الفعل يبقى من الناحية القانونية جريمةً مكتملة الأركان، غير أن المشرّع قرّر مانع عقاب شخصي، لا يُزيل الصفة الجرمية للفعل، وإنما يحول دون فرض العقوبة الجزائية، وذلك يعني أن المسؤولية الجزائية تبقى قائمة من حيث المبدأ، كما أن المسؤولية المدنية تظل قائمة أيضًا، مما يتيح للزوج أو الزوجة الذي تعرّض لمثل هذا الفعل أن يطالب باسترداد ما سُلب منه عبر المحاكم الحقوقية أو المدنية المختصة.
وأوضحت أبو وردة المشرّع الأردني استنادًا إلى أحكام الشريعة الإسلامية وطبيعة المجتمع الأردني المحافظ، ينظر إلى الأسرة بوصفها نواة المجتمع وأساس تماسكه، ومن هذا المنطلق جاءت الحكمة التشريعية وراء الإعفاء من العقوبة في بعض الجرائم بين الزوجين، لتتمحور حول حماية هذا الكيان الأسري المبني على المودة والرحمة والثقة المتبادلة، وتجريم السلوكيات المالية البحتة بين الزوجين قد يؤدي إلى هدم تلك الروابط ويُفضي إلى تفكك أسري، ولذلك أدرك المشرّع أن إقحام الدولة بعقوباتها داخل البيت قد يهدد استقرار الحياة الزوجية أكثر مما يحقق العدالة، فاختار صون الرابطة الزوجية على حساب العقوبة.
وبيّنت أن هذا التوجه التشريعي يقوم على جملة من الاعتبارات، أهمها أولًا المحافظة على روح المودة والسلام الأسري، ومنح الفرصة للتسامح والإصلاح بدلاً من تأجيج الصراع بعقوبة جنائية قد تزيد الشرخ بين الزوجين، وثانيًا القاعدة العامة في العقوبات تقوم على أن القانون لا يعاقب إلا على الأفعال التي تشكّل خطرًا على النظام الاجتماعي العام، أما حين تقع السرقة أو التصرف المالي بين الزوجين، فإن الخطر هنا محدود ومحصور داخل دائرة شخصية يمكن احتواؤها بالعرف أو التسامح، فالعقوبة الجنائية تُبرَّر بقدر ما تحمي المجتمع، لا بقدر ما تنتصر لطرف على آخر داخل أسرة واحدة، والمشرّع رأى أن الجريمة قائمة من حيث الشكل، لكنها لا تستدعي العقوبة لأنها لا تمس المصلحة العامة، كما أن الإبقاء على نافذة الصفح مفتوحة بين الزوجين يوفّر فرصة لإعادة التوازن الأسري، إذ إن العقوبة إذا دخلت بين الزوجين تغلق باب المصالحة المستقبلية، بينما الإعفاء يشكّل دعوة للعفو ووسيلة تربوية واجتماعية للجاني تعيد روح التفاهم داخل الأسرة.
وأشارت أبو وردة تكرار الفعل خلال المدة الزمنية التي حددها المشرّع يُعدّ سببًا مباشرًا لزوال الحصانة العائلية التي مُنحت للجاني في المرة الأولى، إذ إن الإعفاء من العقوبة لم يُقرّ ليكون وسيلة للهروب من المساءلة، بل ليشكّل فرصة للإصلاح والتوبة، وتكرار الجرم خلال ثلاث سنوات من تاريخ ارتكاب الفعل الأول ينقل الجاني من دائرة الإعفاء التام إلى دائرة العقوبة المخففة، حيث تُخفض العقوبة بمقدار الثلثين من العقوبة الأصلية المقرّرة للجريمة، ومع ذلك لا يستفيد الجاني حتى من هذا التخفيف ما لم يقُم بردّ ما سلب من المجني عليه، وإلا فإنه يُعاقب بالعقوبة الكاملة المنصوص عليها قانونًا، والمشرّع الأردني حدّد مدة الثلاث سنوات كفترة اختبار طبيعية للجاني، يستطيع خلالها أن يُثبت صدق توبته واستقامته أو أن يُظهر استمراره في السلوك الإجرامي. فإذا انقضت هذه المدة دون تكرار، يُفترض أن الجاني عاد إلى السلوك القويم وابتعد عن الخطر الاجتماعي، أما إذا عاد إلى الفعل خلال تلك المدة القصيرة، فذلك يُعدّ دليلًا على أن الإعفاء الأول لم يؤدِّ غايته الإصلاحية، بل استُخدم كـ ذريعة للإفلات من العقاب.
ولفتت أبو وردة الإعلام عادةً ما يركّز على الحالات النادرة، مثل سرقة المبالغ الكبيرة أو وقوع الفعل بين زوجين أحدهما شخصية عامة أو معروفة، وهو ما يجعل القضية تأخذ بعدًا عاطفيًا وإعلاميًا واسعًا، وتُقدَّم أحيانًا على أنها ثغرة قانونية تتيح الاعتداء على أموال الزوج أو الزوجة، والواقع القانوني مختلف تمامًا، فـ المشرّع الأردني لم يُشرعن هذا الفعل ولم يُهوِّن من خطورته، بل وضع له حكمة تشريعية ذات فلسفة عميقة، غايتها الأساس حماية الكيان الأسري من التصدّع، فحتى وإن لم تستمر الحياة الزوجية بعد وقوع الفعل، إلا أن آثارها تمتد عبر الأبناء والأسرة الممتدة، ومن غير المصلحة العامة أن تتحول العلاقة إلى خصومة جنائية تُلقي جانبًا العدالة الأسرية وطبيعة الروابط الإنسانية القائمة على المودة والتسامح، والأسرة لا تُقاس بمقاييس السوق أو العقود أو التصعيد القضائي، بل تُصان بـ روح التسامح والحل العائلي الهادئ، وهو ما أراد المشرّع أن يُعزّزه من خلال هذا النهج القانوني الذي يراعي البعد الإنساني والاجتماعي قبل الجزائي.






