صدى الشعب – كتبت المحامية هبة أبو وردة
لم يكن الشرق الأوسط بحاجة إلى أكثر من مستشرق بارع، يُقنع القوى العظمى بأن التفتيت هو الطريق الأقصر إلى الاستقرار، وهكذا، خرج برنارد لويس من كتب التاريخ، ليدخل غرف القرار، كمهندس هادئ للخراب، وناطق باسم مستقبل مكسور.
لويس حامل في رؤاه مقصًا استراتيجيًا، يُعيد جزّ الجغرافيا على مقاسات الطوائف والمذاهب، فقد لبست طروحاته عباءة الفكر الاستشراقي، ودعا إلى إعادة النظر في خرائط الدول الإسلامية بعد سقوط الخلافة العثمانية.
علل لويس ذلك بضرورة بناء نظم ديمقراطية تتناسب مع “الخصوصية الإسلامية والشرقية”، لكن الحقيقة أن مشروعه لم يكن إلا وصفة خبيثة تُقدَّم بوجهٍ باسم، فيما الأصابع تعبث بخريطةٍ من طين ودم.
في عام 1983، وبينما كانت واشنطن تعيد رسم أولوياتها بعد الحرب الباردة، عُقد اجتماع مغلق في لجنة الشؤون الخارجية بالكونغرس، وُصف لاحقًا بأنه لحظة التحول العميق في الرؤية الأمريكية للشرق الأوسط.
كان لويس يرى أن العالم لن يعرف الاستقرار، ما لم تتكسّر القوى المتضخمة في العالم الإسلامي إلى جُزرٍ من المذاهب والعرقيات، ومنذ ذلك الحين، لم تعد الطائفية ملفًا سريًا يُخشى انفجاره، فقد تحوّلت إلى أداة ناعمة، يُعاد بها توزيع النفوذ وكتابة السيادة.
وعلى الرغم من أن مخطط لويس ظلّ يهمس في آذان صُنّاع القرار، ولم يُطرح يومًا على الملأ؛ فواشنطن لم تكن بحاجة إلى غرق جديد في مشاريع الدمقرطة، بقدر حاجتها إلى وصفة أذكى، وهي دعم التشرذم تحت لافتة الاستقرار.
القوى الانفصالية هي سبيل لتحقيق “استقرار يخدم المصالح الأمريكية”، وتغليف التقسيم بورق هدايا من شعارات التعدد والتمثيل، وهكذا، تسللت الخطة كظلٍّ يحرك الأحجام، الألوان، والمناطق، في طريق تفصيل الجغرافيا على مقاس الطائفة.
في عام 2018، خرج المخطط من بين السطور، وارتسم على وجه الخريطة كخطٍ طائفيٍّ مستقيم، يمرّ على جثث المشاريع الوطنية، ويمنح الشرعية لمن يرفع راية الانفصال الناعم.
من سوريا، التي تحوّلت إلى مختبرٍ لرسم الخرائط بدم الفتنة، حيث شرق الفرات للأكراد، الوسط الإيراني الروسي، الشمال لتركيا والجنوب لمن يحمل صفة “المكوّن”.
وفي هذا السياق، لم تكن درعا والقنيطرة والسويداء استثناءً؛ فقد غدت جُزرًا مذهبية، بعضها يتكلّم لغة العشيرة، وبعضها يستقبل الدبابة بوشاح الطائفة.
لم يكن مخطط لويس وثيقةً تحتاج توقيعًا، إنما مزاجًا استراتيجيًا تسلّل إلى عقل الدولة العميقة، وراح يُمارس هندسة الخراب بأدق أدوات العصر، الهوية الجزئية، التمثيل المذهبي والمظلومية العرقية.
سارت الطائفية أمامه كدليل، ووقفت المشاريع الوطنية في طريقه كجثث سياسية لا تقاوم، وما زالت الخيوط تُشدّ من بعيد، ليُعاد نسج الشرق الأوسط على نول مذهبيّ، يُخيط العِرق بالمصالح، ويُطرّز الحدود على أجساد الدول.





