صدى الشعب – سليمان أبو خرمة
مع كل بداية شهر، تتكرر المعاناة ذاتها لدى آلاف الأسر الأردنية يصرف الراتب، لكنه لا يكفي لتغطية أبسط النفقات، ما يدفع كثيرين إلى اللجوء للاستدانة كخيار شبه دائم لتسيير شؤونهم المعيشية، فبين قروض بنكية ودفاتر ديون في البقالات، يتحول الدين من حلّ مؤقت إلى أسلوب حياة مفروض.
ووفقاً لتقديرات نشرها “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسيات” في استطلاع له، أن نحو 40 % من الأردنيين يلجؤون للاستدانة مع بداية كل شهر، سواء عبر البنوك أو عبر مصادر غير رسمية مثل الأقارب وأصحاب المحال التجارية.
في ظل ارتفاع أسعار السلع والخدمات وثبات الرواتب، باتت الأولويات لدى كثير من العائلات تنحصر في توفير الإيجار، فواتير الكهرباء والماء، أقساط المدارس، والدواء، وغيرها من الاحتياجات الأساسية.
وتقول الأرقام الرسمية إن نسبة الفقر تتجاوز 24 %، في حين تتخطى البطالة حاجز 22 %، ما يجعل شريحة واسعة من المواطنين تحت ضغط مالي دائم، في ظل دخل شهري محدود لا يتجاوز في المتوسط 500 دولار للأسرة.
من دفتر السوبر ماركة إلى البنوك
محمد، موظف في القطاع الخاص، يقول لـ”صدى الشعب”: “اضطررت قبل عامين لأخذ قرض لتغطية تكاليف زواجي، “واليوم أستدين من جديد لسداد فوائد ذلك القرض، فالراتب لا يكاد يغطي شيئاً.
أما أم أيمن، ربة منزل، فتقول أنها كل شهر تستدين لسداد أقساط المدرسة وشراء المواد الغذائية، وتحاول التوفيق، لكن لا تستطيع الادخار، وأن كل ما تفعله هو تدوير الدين.
أم أسامة، المقيمة في إحدى مناطق عمان الشعبية، تؤكد أن أغلب مشترياتها اليومية مدونة على دفتر المحل القريب، وتقول أنها تستدين للغذاء، لا للرفاهية، وغالباً ما تواجه مشكلات أسرية بسبب تراكم الديون وعدم القدرة على السداد”.
خالد السالم وهو موظف بالقطاع الحكومي يقول أنه لم يعد الدين مقتصراً على القروض البنكية أو مرابحات التمويل الإسلامي، بل يمتد ليشمل الديون غير الرسمية، ومنها الاستدانة من البقالات أو الأقارب، فيما يعرف شعبياً بـ”دفترالدكانة.
وأكد الخبير الاقتصادي حسام عايش أن الاقتراض وتراكم الديون باتا ظاهرة شبه عامة في المجتمع الأردني، مشيرًا إلى أن هذا السلوك المالي لم يعد خيارًا، بل أصبح ضرورة تفرضها الوقائع المعيشية على الأرض، نتيجة الفجوة المتزايدة بين الدخل والإنفاق لدى الأسر الأردنية.
وأوضح عايش أن بيانات دخل ونفقات الأسرة الأردنية تشير إلى أن متوسط الدخل السنوي للأسرة يبلغ نحو 11,512 دينارًا، في حين يصل متوسط الإنفاق السنوي إلى 12,513 دينارًا، ما يعني وجود فجوة تبلغ حوالي 1,001 دينار سنويًا.
وأشار إلى أن هذه الفجوة، تُغطّى بوسائل مختلفة، أبرزها اللجوء إلى القروض، الديون، الجمعيات المالية بين الأقارب أو الزملاء، أو حتى بيع الأصول مثل الأراضي أو الذهب أو السيارات.
وأشار إلى أن بعض الأسر تضطر لتقليل الإنفاق بشكل سلبي، مثل استبدال السلع الأساسية بأخرى أقل جودة وربما أكثر خطرًا على الصحة، أو تقليص الإنفاق على احتياجات رئيسية كالغذاء، الصحة، والتعليم، لافتاً ان الأمر قد يصل بالبعض إلى تأجيل سداد فواتير شهرية أو إنفاق مدخراتهم بالكامل، مما يزيد من هشاشة وضعهم المالي.
وبيّن عايش أن هذا التكيّف القسري مع فجوة الدخل جعل من الديون جزءًا من الثقافة المالية العامة للأردنيين، حيث أظهرت الإحصاءات الرسمية أن حجم مديونية الأفراد من القطاع المصرفي فقط تجاوز 14.5 مليار دينار، لافتاً أن هناك أشكالاً مختلفة للتعبير عن هذه الأزمة، مثل الشيكات المرتجعة لأسباب مالية، وظهور فئة “الغارمات” كنتاج مباشر لهذه المديونية.
وأضاف أن 14% من الأردنيين يستدينون من مصادر رسمية، بينما يلجأ 39% إلى مصادر غير رسمية، ما يعكس انتشار ظاهرة الاستدانة بشكل كبير.
وأشارإلى أن هنالك مسح أجراه البنك المركزي حول الصحة المالية لعامي 2023 و2024، بين أن ما لا يزيد عن 12% من المواطنين لم يسبق لهم أن تعاملوا مع الديون، ما يؤكد أن الأغلبية تعيش في ظل هذه الأزمة بشكل يومي.
تبعات خطيرة على الحياة الأسرية والمعيشة
وأكد عايش أن أخطر نتائج هذه الظاهرة أن الفجوة المالية تبقى قائمة، حيث يُستهلك جزء من الدخل في سداد القروض وفوائدها، ما يقلص الحيّز المالي المتاح لتغطية الاحتياجات الأساسية، ويؤدي إلى انخفاض مستويات المعيشة.
وأشار إلى أن ارتفاع أسعار الفوائد منذ عام 2022 حتى الآن فاقم هذه الأوضاع، حيث أصبح على المقترضين اقتطاع جزء أكبر من دخولهم لسداد الفوائد، مما قلص قدرتهم على الإنفاق في مجالات أخرى، لافتاً أنه نتج عن ذلك تراجع واضح في جودة الحياة، وزيادة الضغوط على الأسرة، بل وأثر ذلك على العلاقات داخل البيت الواحد.
فخ الديون ليس كمينًا.. بل مسار اقتصادي إجباري
وأشار إلى أن واقع الديون لم يعد مجرد “فخ” تقع فيه الأسر بشكل عشوائي، بل أصبح مسارًا شبه إجباري نتيجة *اختلال التوازن بين نمو الدخول وارتفاع الأسعار.
وبيّن أن نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي بأسعار ثابتة في عام 2024 بلغ نحو 2,846 دينارًا سنويًا، بزيادة طفيفة لا تتجاوز 16 دينارًا عن عام 2023، أي ما يعادل 1.3 دينار شهريًا فقط.
وأوضح أن هذه الزيادة أقل من معدل التضخم المسجل لعام 2024، والذي بلغ 1.56%، في حين وصل خلال الأشهر الخمسة أو الستة الأولى من العام إلى 1.97%، مما يعكس تآكل القدرة الشرائية وارتفاع كلفة المعيشة مقارنة بوتيرة نمو الدخل.
وقال إن هذا التفاوت يعكس فجوة مستمرة بين الزيادة النقدية في الأجور والدخول، وبين القوة الشرائية الفعلية لها، ما يدفع الأسر إلى تغطية هذه الفجوة بالديون وأدوات التكيّف المالي الأخرى التي سبق ذكرها.
دعوة لإصلاحات هيكلية وتحسين المعيشة
وشدد على أن تجاوز هذه الحالة يتطلب إصلاحات اقتصادية عميقة تبدأ برفع معدلات النمو الاقتصادي، وتغيير النموذج الاقتصادي الحالي، ودراسة الأسباب التي ترفع الكلف المعيشية، وفي مقدمتها الاعتماد الكبير على الاستيراد وما يرافقه من استيراد للتضخم، إضافة إلى الضرائب والرسوم المعلنة وغير المعلنة، والتكاليف الخفية التي تتحملها الأسر يوميًا.
وأضاف أن هذه التفاصيل “الصغيرة” في الظاهر، تشكّل عبئًا كبيرًا في المجمل، وتؤدي إلى شعور عام بأن إدارة الدخل الشهري أصبحت مهمة شبه مستحيلة، في ظل تراجع مستمر في مؤشرات الصحة المالية للأسر، وغياب دور فعّال للأداء الاقتصادي في تحسين حياة المواطنين.
