ماجد توبه
لا يمكن تفسير حجم الإجرام الصهيوني ومدى الحقد والتحلل من كل القيم في حرب الإبادة التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني بقطاع غزة سوى بحجم وفداحة الخسارة والانكسار الذي مني به كيان الاحتلال منذ يوم 7 أكتوبر وطوفان الأقصى، وكأن هذه الوحش المسخ الإسرائيلي يقتل ويبيد آلاف الأطفال والنساء بمجازر دموية معلنة ومصورة رغبة منه في إعادة التاريخ الى ما قبل تلك اللحظة الفارقة بالتاريخ… لكن هيهات!
ثلاثة معطيات رئيسية يمكن تلمسها بوضوح في الخسائر الإستراتيجية التي لحقت بالكيان المحتل منذ 7 أكتوبر، يشعر الإسرائيليون ومن خلفهم الأمريكيون أن نتيجة العدوان الهمجي غير المسبوق على غزة ومهما كانت النتيجة لن تمحوها أو تنهي أثرها الاستراتيجي، لذلك يتخبطون بإظهار أقسى ما لديهم من قوة نار وتدمير أعمى للبشر والحجر ولكل المؤسسات الفلسطينية بما فيها المستشفيات ومواقع إيواء النازحين التي ترفرف عليها العلام الأمم المتحدة والاونروا.
عندما ييأس كيان متوحش، يملك من فائض القوة الكثير والدعم الأمريكي والغربي الأعمى، من إعادة عجلة التاريخ واستحالة إلغاء الخسائر الإستراتيجية العميقة التي حدثت وترسخت، وسيكون لها تداعيات كبرى على المدى المتوسط والبعيد على المشروع الاستعمار الاحلالي للكيان، فحينها ستفهم لماذا تكون كل هذه البشاعة والقساوة والإجرام بحرب الابادة، فهو انتقام اليائس والحاقد على تحطم أحلامه وأطماعه.
استعرض هنا المعطيات الثلاث من الخسائر الإستراتيجية التي لن تستطيع إسرائيل محوها او تجاوزها حتى لو أبادت إسرائيل غزة عن بكرة أبيها وهذا بعيد عنها.
المعطى الأول، والذي يعد نسبيا الأقل أهمية، هو أن طوفان الأقصى في 7 أكتوبر حفر قبر نتنياهو ونخبته السياسية والعسكرية والأمنية القائمة حاليا، عندما فشلوا في توقع الإعصار المقاوم لتنهار حدود الكيان وتتدمر فرقة غزة العسكرية ويقتل 1400 إسرائيلي، ويخطف المئات من الجنود والمستوطنين حتى الان. مقصلة المحاسبة والمحاكمة قادمة حتى “لو” انتصر العدو بعدوانه.
أما المعطى الثاني؛ فهو الأثر الاستراتيجي لانهيار “الجيش الذي لايقهر” إمام طوفان الأقصى بأربع ساعات، وتحرير غلاف غزة، وتدمير والسيطرة على فرقة عسكرية كاملة باسلحة بدائية للمقاومة. لقد انهارت يومها أسطورة الأمن والاستقرار والقوة والردع، وان هذا الجيش لا يجرؤ احد على تحطيم هيبته وتماسكه.. هي صورة وحقيقة عميقة ستتجذر في النفوس والعقل الجمعي الإسرائيلي ولا يمكن محوها، خاصة وان صف الأعداء للمشروع الاستعماري لا ينتهي حتى لو انتصرت إسرائيل عسكريا بغزة، فالمقاومة الفلسطينية لن تنتهي لا بفلسطين ولا خارجها، وحزب الله، الذي يخيف الإسرائيليين أكثر من حماس سيبقى موجودا ومن خلفه إيران وحلفاء آخرين.
إذا؛ لم تعد هناك قناعة جمعية كانت ترسخت بعقيدة المجتمع الإسرائيلي، بان الجيش الإسرائيلي وقوته الفائضة هو الضمان الأساسي لأمنهم واستقرارهم وتوسعهم وازدهارهم. ولن يستطيع كل محللي وسياسيي إسرائيل قبل الاسرائيل العادي التهرب من حقيقة أن الولايات المتحدة وتدخلها السريع ببوارجها وأسلحتها وأموالها ودعمها السياسي هو ما أنقذ إسرائيل من السقوط المدوي بعد زلزال 7 أكتوبر، وأعاد التماسك لهذه الكيان.. لكن السؤال سيبقى مدويا في العقل الجمعي الإسرائيلي عن ماهية هذه الدولة التي تتهاوى هيبتها وتماسكها باربع ساعات رغم كل ما تملكه من قوة وتحتاج للقوة العظمى لإعادة تجميع شظايا ما تكسر وتحطم بلمحة عين.
فيما المعطى الثالث، وهو الأخطر والمرتبط بالمعطيين الأول والثاني، فهو المتعلق بالهجرة المعاكسة للإسرائيليين لخارج إسرائيل، والمرتبط أيضا بالنزوح الداخلي من الغرب وغلاف غزة ومن الشمال بمدن وقرى ومستوطنات الحدود اللبنانية.
الأرقام هنا تتحدث عن نفسها، فنصف مليون إسرائيلي نزحوا من غلاف غزة وسديروت ومن شمال الكيان المحادد للبنان هربا من أهوال الحرب، وهؤلاء وبحسب التقارير الإسرائيلية يرفضون حتى لو توقف العدوان على غزة العودة إلى منازلهم ومناطقهم، فيما نازحو الشمال أيضا لن يعودوا ليجاوروا صواريخ ومدفعية حزب الله التي يمكن أن تنطلق بأي لحظة.
اما على مستوى الهجرة المعاكسة، فحسب الإحصائيات الإسرائيلية فإن 240 ألف إسرائيلي غادروا الكيان منذ 7 أكتوبر وحتى الان، واغلبهم بلا رجعة، علما أن اغلب الإسرائيليين يعدون من مزدوجي الجنسية، والحديث بات علنا في المجتمع الإسرائيلي عن المقارنة بين العيش بأمان في نيويورك وأوروبا وبين العيش في بلد معرضة للحرب والصواريخ واستدعاء الاحتياط للموت على الجبهات في اي لحظة!
ما بعد طوفان الأقصى لن يؤثر فقط على مستوى الهجرة إلى إسرائيل، بل وهو الأخطر، سيزيد من مستوى الهجرة المعاكسة من إسرائيل بحثا عن اليقين والأمن والاستقرار!