بلغة حازمة صارمة، تحدث الملك قبل أيام عدة أمام مجلس سياسات موسع. الرسائل واضحة جلية: يكفي هذا الحال من ترهل إداري وصل لأن يخفق مستشفى كلف الدولة 90 مليون دينار بتأمين أكسجين لمرضاه، فهذا أمر كبير أغضب كل الأردنيين وعلى رأسهم الملك، ولا بد من تنظيف المؤسسات من العبث والترهل الإداري والأداء الضعيف لتعود إلى ألقها وتقدم يستحقه الأردنيون من خدمات.
الرسالة الأخرى، أن الأردن مر بالعديد من الأزمات والمحن، لكننا في كل مرة كنا نخرج منتصرين قادرين ونصوب الخلل نعدل الاعوجاج. أما أكبر الرسائل وأعمقها، فهي موجهة إلى منظومة القيم المجتمعية الأردنية، رافضا جلالة الملك بالقطع أن ثقافتنا هي ثقافة الواسطة والمحسوبية والفساد، بل هي ثقافة الشرف والرجولة والكرامة، فتلك هي القيم التي أنشئ عليها الأردن، وبنى من خلالها الآباء والأجداد هذا البلد العظيم الكبير، وواجبنا أن نعلم الجيل الجديد هذه القيم وهم يمضون لقيادة البلد في مؤيته المقبلة.
التوجيهات الملكية متجددة تدل على إصرار ملكي بضرورة إحداث التغيير المطلوب والإصلاح المنشود. قد نسير ببطء بملف إصلاح ما، وبسرعة في آخر، وهذه أمور تتباين وتختلف فيها الآراء، لكن الثابت أن ثقافة البلد التي ترسخت هي ثقافة ناشدة للإصلاح وساعية له، وأن القيادة السياسية تقوم بدور بث قيم الفضيلة والتطور والإصلاح بين أركان المجتمع، ما جعل منه مجتمعا يسعى دائما للإصلاح والتطور. لذلك، فلا خلاف في الأردن بين الجميع على ضرورات الإصلاح وأولويته، لكن لدينا تباين بالآراء حول سرعته والآليات المثلى لإحداثه، وهذا شأن طبيعي وصحي وديمقراطي.
الملف المطروح الآن بعد فاجعة السلط المدوية هو ملف الإصلاح الإداري، وحتمية التخلص من الترهل وتراجع الأداء بعد أن كانت الإدارة العامة مثالا يحتذى بالإقليم. الخبراء والأصوات كافة تكاد تجمع أن هذا شأن لا يمكن حدوثه بين ليلة وضحاها، فهو عملية مستمرة ومعقدة وتحتاج لإجراءات زمنية، لكن ما يجمع عليه الخبراء أن منظومة المحاسبة والمساءلة يجب أن تعمل بقوة ودون تردد، وبعدالة تضع الأمور في نصابها الموضوعي الصحيح.
وهنا تجدر الإشارة لاقتراحات آنية سريعة وأخرى استراتيجية بعيدة المدى، أما آنيا، فإعطاء وتحويل ديوان الخدمة المدنية من مؤسسة للتوظيف لتصبح مؤسسة رقابة إدارية تماما كما ديوان المحاسبة من شأنه أن يضع حدا للواسطة والمحسوبية والترفيع الظالم والقرارات الإدارية غير المنصفة أو الموضوعية.
أي قرار إداري الآن يمر ما دام محميا بالقانون وضمن صلاحيات المسؤول، دون وجود أسس شاملة تفصيلية واضحة تحكم هذا القرار، لكن إن أصبح ديوان الخدمة ذا صلاحية رقابية كديوان المحاسبة، فسيتم الحد من ذلك وستترسخ ثقافة الجدارة والكفاءة في منظومة إدارة الدولة. أما استراتيجيا، فيجب أن يكون لدينا استراتيجيات قطاعية عابرة للحكومات على غرار برنامج الإصلاح المالي العابر للحكومات والملتزم به مع صندوق النقد. هذا من شأنه أن يخفف التغيير المتسرع وغير المدروس المحفز بعقدة ترك البصمة عند المسؤول.