د.سالم عايد الدهام
حين كان الإنسان يواجه الطبيعة بشكل مباشر في العراء بعيدا عن المدن الكبرى والتكنولوجيا الحديثة التي فصلت الإنسان عن تلك المواجهة حتى انحصرت في حدود ضيقة جدًا كان البشر مزودين بحساسات عالية تجاه العالم من حولنا لكن الطبيعة لم تعد هي التي تنتخب أفراد النوع البشري الأكثر كفاءة وقدرة، والأصلح للبقاء على سطح هذا الكوكب، فمثلما امتدت أيدٍ طويلة زعمت أنها تهندس الأشياء لصالح الإنسان على هذه الأرص بما يكفي لإسعاده، وغُلت يد الطبيعة عن اختيار باقي أفراد الأنواع الحية الأخرى غير البشرية الجديرة بالبقاء وصارت الهندسة الوراثية تتكفل بإنتاج الأنواع المناسبة لمعيشة الإنسان وتأمين غذائه ولباسه ودوائه… حتى اختفت كثير من الأنواع والسلالات الطبيعية ونشأت سلالات وأنواع لم تنتجها الطبيعة من قبل، صحيح أنها ضاعفت من إنتاج الموارد، وساهمت في تأمين الاحتياجات الضرورية للحياة، لكنها وبسبب استمرار دخول الأنواع الجديدة المهجنة في دورة التكاثر والحياة مع انتخابات الطبيعة الأولى قد ضيعت البذور والجذور والخلايا الحيوية البشرية والحيوانية التي أنتجتها الطبيعة عبر ملايين السنين، وصمدت طوال هذه الحقب والأزمان الموغلة في العمق وكانت كلما تقدمت عليها العصور اكتسبت أدوات ومهارات للبقاء وأسباب جديدة للحياة.
الأمر نفسه يمكن أن يقال عن البشر ، فلم يعد البشر اليوم في وضع يسمح لهم بأن يتمتعوا بالحساسية البشرية الطبيعية في تفاعلهم مع الأحداث من حيث قبولها أو رفضها في ظل عمليات الهندسة القيمية والأخلاقية المتواصلة، بعيدا عن تلك المنظومات الأخلاقية التي نشأت في ظل الطبيعة من حيث هي المسرح الذي يدور فيه الإنسان في نظام مرجعي معياري محكم، تُستقرأ قيمه وتُستوحى ولا تُخترع… نلاحظ اليوم انفصال البشر عن طبيعتهم، والدخول في رياضات مجهدة تغذيها المصالح والأنانية والأيديولوجيا والرغبة في السيطرة، وانتهاك حقوق الآخرين وذلك للانفصال عن الواقع الإنساني باعتباره من قيم الماضي ومخلفات عصر ما قبل العلم.
إن التشوه الكبير الذي طال الأنواع الحية كلها بما في ذلك الإنسان قد أفرغ عالم اليوم من ما يلزم من مراوحة محسوبة بين الحاجات الطبيعية والغريزية لبعض الكائنات الحية (الأرقى)وحق بعضها الآخر في أن تبقى كما خلقها الله من جهة، ولعل ذلك سيتسبب حتما في الإخلال بالتوازن الطبيعي للنظام الأخلاقي العالمي ببعديه الروحي والمادي، الأمر الذي ربما ينعكس في صورة فجوة عميقة تزيد من حالة الاستقطاب، وتؤثر على الوجدان الإنساني العام، وتقلل من فرص التعايش في المستقبل، وتلغي تاريخ البشرية الطويل لتختزلة في مختبرات الهندسة الأخلاقية التي قد تنتج كائنات فردية منعزلة،بلا عقول بنائية ولا مشاعر إنسانية.