صدى الشعب – كتب: فيصل تايه
كنت قد أشرت في مقالي السابق إلى أهمية قراءة نتائج اختبارات “TIMSS” الدولية بوعي مهني متوازن ، بعد ان أعادت هذه النتائج إلى الواجهة نقاشاً تربوياً واسعاً حول واقع التعليم ، وحدود ما تحقق ، وما ينبغي التفكير فيه بجدية في المرحلة المقبلة ، اذ ان هذا النقاش يعكس حاجة حقيقية الى تقييم أعمق لما انجز ، والى تفكير مسؤول في الخطوات المستقبلية التي يمكن أن تدعم جودة التعليم، وتعزز قدرة الطلبة على مواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين.
النقاش، في جوهره، نقاش صحي ومطلوب، ما دام ينطلق من فهم علمي للبيانات، ويتجنب الأحكام القطعية أو القراءات المتعجلة التي لا تخدم التطوير بقدر ما تكرس الاستقطاب ، وفي هذا السياق ، جاءت ملاحظات معالي وزير التربية والتعليم الدكتور عزمي محافظة لتقدم قراءة توضيحية مهمة، خاصة فيما يتعلق بنتائج TIMSS الطولية، التي أظهرت تقدماً في أداء طلبة الصفين الرابع والثامن في مادتي العلوم والرياضيات ، هذا التقدم ، وإن لم يلغ الفجوة القائمة مع الدول المتقدمة، إلا أنه مؤشر لا يمكن تجاهله عند تقييم المسار العام ، خصوصاً عند مقارنته بأداء الطلبة في دورات سابقة.
الإشارة إلى هذه النتائج الإيجابية لا تعني الاكتفاء بها، كما أن التوقف عند الفجوات لا يعني التقليل من الجهد المبذول ، فالقراءة التربوية المتوازنة تقتضي الجمع بين الأمرين معاً : الاعتراف بما تحقق، والتساؤل الهادئ حول ما لم يتحقق بعد ، فالمقارنة الدولية بطبيعتها لا تهدف إلى إصدار أحكام أخلاقية على الأنظمة التعليمية، بل إلى مساعدة الدول على فهم موقعها، واتجاه حركتها، ومدى قدرتها على إحداث تقدم معرفي حقيقي عبر السنوات الدراسية.
ومن منطق خبرتي التربوية ، لم يكن هدفي في أي قراءة أو مقال التشكيك في خيارات الوزارة، ولا الاصطفاف ضدها، كما لم يكن الهدف تبني خطاب تبريري أو دفاعي ، فما أؤمن به هو أن الإصلاح التعليمي لا ينجح إلا إذا بني على حوار مهني صريح، يعترف بالتقدم دون مبالغة، ويتعامل مع التحديات دون تهويل ، فالمنظومة التعليمية، بطبيعتها، كيان معقد، وأي نتائج “إيجابية كانت أم مقلقة” هي نتاج تراكمات طويلة لا يمكن اختزالها في قرار أو مرحلة واحدة.
إن مشاركة الأردن في اختبارات دولية، حتى في ظروف تكون فيها المشاركة محدودة دولياً ، تعكس رغبة في تشخيص الواقع والاطلاع على المؤشرات العالمية، وهي خطوة مهمة بحد ذاتها ، غير أن القيمة الحقيقية لهذه المشاركة لا تكمن في النتيجة المجردة، بل في كيفية توظيفها لاحقاً في تحسين الممارسات الصفية، وتطوير المناهج، وتعزيز قدرات المعلمين، ومعالجة الفجوات في المهارات الأساسية لدى الطلبة.
وفي هذا الإطار، تبرز أهمية إعداد تقارير تحليلية متخصصة من قبل المركز الوطني لتنمية الموارد البشرية، لأن مثل هذه التقارير تشكل أساساً علمياً أعمق للنقاش، وتساعد على الانتقال من الانطباع إلى التحليل، ومن رد الفعل إلى التخطيط ، فصناعة القرار التربوي الرشيد لا تقوم على رقم واحد، بل على قراءة متكاملة لسياق الأداء، واتجاهاته، والعوامل المؤثرة فيه.
إن الاختلاف في زوايا النظر بين المسؤول التنفيذي، والخبير التربوي، والميدان التعليمي، ليس ظاهرة سلبية بحد ذاته، بل قد يكون مصدر قوة إذا أُدير ضمن إطار من الاحترام المتبادل والهدف المشترك ، فالوزارة تقود السياسات العامة، ويسهم الخبراء التربويين في تعميق الفهم وتوسيع دائرة النقاش، بينما يختبر الميدان الأثر الحقيقي لهذه السياسات على الطلبة.
من هنا، فإن التعامل مع نتائج TIMSS لا ينبغي أن يكون دفاعاً مطلقاً ولا نقداً قاسياً ، بل فرصة لإعادة ترتيب الأولويات، والتركيز على جوهر التعلم : الفهم، والتحليل، والتقدم المعرفي المستدام ، فالتعليم لا يقاس بلحظة اختبار، ولا يختزل في ترتيب دولي، بل في قدرة النظام على أن يجعل كل سنة دراسية إضافة حقيقية في تعلم الطالب.
في النهاية، ما نحتاجه اليوم هو خطاب تربوي هادئ، يبتعد عن التخويف والإنكار معاً ، ويقترب أكثر من بناء توافق وطني حول التعليم بوصفه مشروعاً طويل الأمد ، مشروع يتسع للاجتهاد، ويحتمل المراجعة، ويستفيد من النقد المهني، ويضع مصلحة الطالب في قلب أي قرار ، فبهذه الروح فقط يمكن أن تتحول نتائج الاختبارات الدولية من مادة جدل إلى أداة تطوير حقيقية تخدم مستقبل التعليم في الأردن.
والله ولي التوفيق






