صدى الشعب – كتبت سارة طالب السهيل
ارتبط العنف والصراع بكوكب الأرض حتى قبل نزول آدم وحواء إليها، ولعل الآية الكريمة في سورة البقرة تؤكد هذا المعنى وخشية الملائكة من وجود الإنسانية للإفساد والقتل أسوة بالمخلوقات السابقة عليه كما في قول الله تعالى:
(وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها، ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك، ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون).
فالأرض بخيراتها وكنوزها وعلومها وأسرارها كانت وما زالت محورا للتعاون كما هي محور أيضا للتنافس والتناحر. ولعل استمرار العنف والاقتتال قرنا بعد آخر، إنما يؤكد أن العنف سمة إنسانية موجودة في النفس البشرية منذ بداية الخليقة، حين قتل قابيل أخاه هابيل بسبب الغيرة، كما ذكر العهد القديم.
وعلى ذلك، فان كل مراحل التاريخ البشري شهدت أطواراً متباينة من العنف بحسب تطور العقل البشري واحتياجاته وأطماعه وأيضا أمراضه النفسية والفكرية المشوهة.
وتنوعت أشكال العنف من العدوان إلى الاستغلال والاستعمار، ومن الأشغال الشاقة والاقتتال الفردي والجماعي، وظلت الحروب من أبرز أشكالها في القديم والحديث.
فالتاريخ، وكما يقول فرويد، افتُتِح بالعنف؛ الذي تمثل في قتل أديب لأبيه.
والدراسات العلمية تؤكد أن العنف كان سائدا طوال فترة وجود البشر، حيث مات ما يقرب من مليار شخص نتيجة مباشرة للحروب، وفقا لكتاب «ما يجب أن يعرفه كل شخص عن الحرب» الصادر في 2003. وكذلك الامبراطوريات القديمة قد قامت معتمدة على التخويف والعنف.
فهل الطبيعة الإنسانية هي الأساس في العنف وتوقع حدوثه أم أن المتغيرات يعيشها الإنسان من عصر لآخر وغير قادر على مواجهتها كانت سببا في خلق دوافع العنف لديه؟
أصل العنف:
الحقيقة أن مجموعة من الفلاسفة وعلماء النفس الفيلسوف طوماس هوبز وعالم النفس سيغموند فرويد، قد رأوا في الطبيعة الإنسانية مصدر وأصل العنف.
ففي كتابه اللفيتان (التنين) يؤكد طوماس هوبز أنه بإمكاننا أن نجد في الطبيعة الإنسانية ثلاثة أسباب رئيسية هي مصدر النزاع، وهذه الأسباب هي: التنافس، الحذر والكبرياء. أما التنافس فيتخذ كغاية له تحقيق المنفعة والمصلحة، فالأفراد يلجأون إلى العنف من أجل السيادة على الآخرين، وعلى نسائهم وأطفالهم وخيراتهم. أما الحذر فتكون الغاية منه الحفاظ على الأمن الذاتي، حيث يُلْجَأ إلى العنف من أجل الحفاظ على المصالح المتحققة. والكبرياء فغايته سمعة الفرد، حيث قد يلجأ الفرد إلى العنف بسب كلمة أو ابتسامة أو رأي مخالف، أو إشارة دا?ة على احتقار الشخص أو احتقار أقربائه أو وطنه.
بينما تنفي الفلسفة الماركسية مسؤولية الطبيعة البشرية عن العنف، وترجعها إلى الصراع الطبقي كمصدر للعنف. فالصراع بين من يملك وسائل الإنتاج والخبرات وبين من لا يملك، الصراع بين طبقات الأحرار والعبيد (في المجتمعات العبودية)، وبين الإقطاعيين والأقنان في ظل النظام الإقطاعي، وفي المجتمع الحديث بين البرجوازية والبروليتاريا.
ويرى إنجلز أن الصراع الطبقي يولد شكلين من العنف، عنف سياسي وعنف اقتصادي، وغالبا ما يحدد الثاني الأول، ما دام العنصر الاقتصادي هو أساس تطور المجتمع.
مشروعية العنف
منح ماكس فيبر، الدولة الحديثة حق ممارسة العنف وجعله مشروعا من أجل السيطرة على الأفراد، حفاظا على الدولة وكيانها، لأن زوال الدولة يعني الفوضى، وعلى عكس كل هذه الأطروحات، أطروحة غاندي الأخلاقية، لا عنف، وتنطلق من قناعته بأن العنف هزيل لا أحقية ولا مشروعية له والأعنف هو نضال ضد الشر وضد الحقد، وكل المظاهر السلبية للعلاقة بين الأفراد والجماعات والشعوب.
العنف في الأزمنة السحيقة
وقد حاول الباحثون استكشاف تاريخ العنف البشري باستخدام بقايا الهياكل العظمية، والتي يعود تاريخها إلى 12 ألف عام في منطقة الشرق الأوسط.
الدراسة التي نشرت في أكتوبر 2023، وأجراها فريق دولي من جامعات «توبنجن» و”برشلونة» و”وارسو»، استخدم الباحثون 3539 مجموعةً من بقايا الهياكل العظمية من الشرق الأوسط لإعادة بناء الأنماط المبكرة للعنف البشري.
ووجدت الدراسة أنه على الرغم من أن العنف واسع النطاق كان متسقًا في تاريخ البشرية، إلا أنه لم يكن متسقا في حدته. فحص الباحثون بقايا بشرية من إيران والعراق والأردن وسوريا ولبنان وفلسطين وتركيا؛ بحثًا عن إصابات عظام لا يمكن أن تحدث إلا من خلال العنف.
واستخدم الفريق تلك البيانات لإعادة بناء أنماط العنف البشري في الفترة ما بين 12000 ق.م إلى 400 قبل الميلاد، وشهدت تلك الفترة فجر الزراعة والتخلي عن الحياة البدوية وإنشاء أقدم المدن والولايات.
وفق الدراسة، تزامنت مستويات العنف في المنطقة مع ظهور المدن الأولى، ومع ظهور الدول البدائية، شهدت المجتمعات زيادةً في الكثافة السكانية، واتساع فجوة عدم المساواة الاجتماعية، والتنافس على الموارد، مما أدى إلى صراعات منظمة متكررة.