من بين المقولات التي تروق لي، وأعدّها خريطة طريق نفسيّة ذات مقدار عالٍ من الأمان وحماية الذات من التصدّع: “إن لم تستطع قول الحق، فلا تصفّق للباطل”، لأنّ هذا يؤكّد فضيلة الصمت، وعلوّ كعبه، حيث يكون الكلام المباح ليس مباحاً، والإباحة هناك قرار ذاتيّ محض. أمّا من وُضعت السكّين فوق أعناقهم، وقيل لهم إمّا أن تصفقوا للباطل، أو ننحركم من الوريد إلى الوريد، فهؤلاء معذورون، ولا ذنب لهم، ولا جُناح عليهم.
بيْد أنّ الذين يصفّقون للباطل من تلقاء أنفسهم، أو طمعاً في غنيمة، أو انتظاراً لأعطية، أو مشياً مع مراكب الشر والفساد والخديعة، فهؤلاء هم الذين باعوا أنفسهم للشيطان، واختاروا السلامة مع الذلّة، فكسبوا بعضاً من متاع الأرض، لكنّهم فقدوا جوهرهم الإنسانيّ، وطعنوا الحقّ في ظهره.
ولكن، ما الذي يثير في نفس كاتب مثل هذه الزوابع، فيوقظ قلمه من سباته المؤقّت، ويشحذ قريحته كي يكتب فيما قد يعتبره الآخرون بداهة، وتحصيل حاصل، أو لزوم ما لا يلزم؟
لعلّ في الإجابة عن هذا السؤال إبحاراً في لجّة مياه هي أقرب إلى المستنقع منها إلى البحار العميقة، أو الأنهار الرائقة الجارية بخيلاء. وهذه اللجّة تتجلى في ركوب موجة ضحلة، وغالب هذه الموجات يصدر عن أهل السياسة والإدارة العامة الذين يهدفون في المقام الأول إلى السيطرة، حتى لو قادهم الأمر إلى الشطط، وإزهاق روح الحقائق، ووضع شمع كثيف في أفواه البشر كيلا يتكلّموا أو ينبسوا ببنت شفة، وهذا ديدن الطغاة منذ أول عهود الهيمنة.
لا تصفّق للباطل، تقول الفطرة السليمة التي جُبل عليها الكائن قبل أن يتصنّف أو يتقنّع أو يتحزّب أو ينخرط في القطيع، ويتماهى معهم، فيغدو رقماً في عِداد ما يُعرف بـ”الجماهير” التي قال عنها غوستاف لوبون: “الشيء الذي يهيمن على روح الجماهير ليس الحاجة إلى الحرية، وإنما إلى العبودية؛ ذلك أنّ ظمأها للطاعة يجعلها تخضع غرائزياً لمن يعلن بأنه زعيمها”. والزعيم هاهنا، حتى لو كان زعيم ميليشيا، هو الذي يصفّق للباطل وينتجه ويروّجه فيغدو مع التكرار كأنّه “حقيقة” فتصدقه الجماهير، وربما تعتنقه وتدافع عنه بكلّ ما أوتيت من تطرّف (والتطرّف جزء من الهمجيّة) حتى تستنفد تلك “الحقيقة” طاقتها.
هكذا صُنعت الحضارة، أي بتقديس الأكاذيب ورفعها إلى مصافّ الحقائق، ثم بتحطيمها والبحث عن منصّة أخرى تُرقّيها في سلّم التاريخ، وهذا يعدّ في نظر لوبون تقدماً.
البحث شائك ومغرٍ ومثير للعقل الناقد الذي يتأمّل في الآليات النفسيّة للمصفقّين للباطل الذين أصابتهم أوصاف كثيرة أغلبها مذقع، لكنه لا يأبهون بذلك ويتحصّنون بعبارات براغماتيّة تحضّ على أنّ “الغاية تبرّر الوسيلة”، وقد يقود التطرّف، في هذه المقولة، إلى مكارثية فظيعة تشبه “محاكم التفتيش” التي تنقّب في العقول والأفكار والمعتقدات، وهو ما نعاني منه الآن، وهو ما كابده غاليليو في روما، كما عانى منه الحلّاج في بغداد، وكلاهما اتهم بـ”الزندقة” رغم اختلاف الأزمنة والمرجعيّات الدينيّة والسياسيّة، وكلاهما قال خصومهما إنهما فكّرا خارج الصندوق، وفي منأى عن ذهنيّة القطيع.
غاليليو والحلاج خلّدهما التاريخ، رغم أنف رواة السلاطين. أمّا خصومهما، فلا يأتي على ذكرهم كتاب أو قُصاصة. كلاهما قال الحقّ، فعُذب غاليليو ونُفي، وأمّا الحلاج فقد التهمت جسده النار، بعدما قُطّعت يداه ورجلاه وضُرب عنقه.
ليس مطلوباً من أحد أن يضحي بحياته من أجل “الحقّ” أو ما يعتقده حقّاً، فهذا ليس دائماً بمستطاع البشر. لكنّ الذي في استطاعتهم، إلى أقصى حد، هو ألّا يصفّقوا للباطل!