جاء السفر الثريّ (المؤرخون الأردنيون وكتابة التاريخ في مئة عام، تأطير عام، وتقييم للأعمال، وملاحظة للتوجهات والمناهج) الذي أضافه المؤرخ الأردني الكبير علي محافظة إلى رصيده الإبداعي في ميدان الكتابة التاريخية، ليسدّ باباً واسعاً في علم التاريخ ومناهجه وتدوينه في الأردن.
وقد تعاون محافظة في إنجاز هذا العمل التأريخي المهم مع الدكتور المهدي الرواضية، وهو أحد تلامذته النجباء، ويعدّ واحداً من الباحثين الأردنيين الجادين في ميدان الكتابة التاريخية. وتولت المؤسسة العربية للدراسات والنشر في عمان، نشر هذا العمل المسحي الموسوعي المهم مؤخراً، ويقع في 759 صفحة، ويتوزع على مدخل، وستة فصول وخاتمة وتوصيات.
وتكمن أهمية هذه الدراسة في رسمها صورة واضحة للكتابة التاريخية في الأردن بأيدي المؤرخين والباحثين الأردنيين، بعد أن كانت المكتبة التاريخية خالية من دراسة علمية منهجية حول الكتابة التاريخية في الأردن. وتمثّل هدفها في “مراجعة ما كتبه الأردنيون المعاصرون من أكاديميين وغيرهم عن تاريخ بلادهم وفي التاريخ العام والآثار على امتداد الحقب التاريخية، وبيان الموضوعات التي توسعوا فيها، وتلك التي لم يتطرقوا إليها، أو قل اهتمامهم بها”.
ونتفق معهما بأنه قد “مر قرن من الزمان على البلاد الأردنية بعد تشكّل الكيان السياسي فيها، منها ستون عاماً بعد نشأة قسم التاريخ في أوَّل جامعة أردنية، دون أن تُفرد دراسة علمية نقدية متكاملة لاستجلاء مسيرة كتابة
التاريخ في الأردن وملاحظة المنطلقات والدواعي، واستجلاء التوجهات لكتّاب التاريخ الأردنيين، وتقييم المنجز وطرحه على بساط النقد والتحليل”.
وكما أوضح المؤلفان فإن “في هذه الدراسة سعيٌ لرصد الجهود الرسمية والفردية في كتابة التاريخ، وملاحظة الأعمال المبذولة التي أنجزها الأردنيون باختلاف بيئات البحث ومواطنه، تأليفاً وترجمة وبحثاً وتحقيقاً”. وحدّد المؤلفان الإطار الزمني والموضوعي لدراستهما المسحيّة هذه “برصد المُؤلَّفات التاريخية المنشورة منذ أقدم ما وقع طبعه ونشره حتى عام 2022م، مما كتبه الأردنيون على اختلاف منازلهم العلمية، وكذا الرسائل والأطاريح العلمية التي نوقشت في الأردن وتمت إجازتها، مثلما استوعبت الدراسات والبحوث المنشورة في المجلات العلمية ووثائق المؤتمرات وحوليات الآثار والكتب التكريمية المهداة لبعض أساتذة التاريخ”.
وهذه الدراسة المسحيّة شملت الكتب والبحوث المؤلّفة باللغة العربية، وباللغات الأجنبية التي تهيأ لهما الاطلاع عليها خصوصاً الإنجليزية والفرنسية والألمانية، إضافة لما وقع ترجمته منها وأصبح في عداد المكتبة العربية. وعليه، فقد تم رصد 5558 دراسة تاريخية وأثرية، تتكون من 1590 كتاباً، و 2711 بحثاً منشوراً ، و 1257 رسالة وأطروحة جامعية.
واهتمت الدراسة بمسح الإنتاج الأردني في التدوين التاريخي عبر الحقب التاريخية كلها، من العصور القديمة بتفريعاتها المعروفة لدى علماء الآثار والتاريخ، وصولاً إلى التاريخ الحديث والمعاصر. واشتملت على الإنتاج العلمي لعلماء الآثار والباحثين الآثاريين الأردنيين بوصفه عملاً تاريخياً يُؤرّخ لحقب ماضية وإن اختلفت وسائل البحث ومناهجه ومصادره. ومما امتازت به هذه الدراسة الموسوعية الشاملة ما أتاحته للقاريء من فرصة للتعرّف على الأساتذة والمؤلّفين الأردنيين في التاريخ والآثار بتقديم بعض اللمع والتعريفات المقتضبة عن تخصصاتهم والجامعات التي تخرجوا فيها، إضافة إلى التعرّف على مساهمتهم في الكتابة التاريخية.
وخلص المؤرخان الأردنيان محافظة والرواضية في ختام دراستهما القيّمة إلى جملة من الاستنتاجات والتوصيات والمقترحات يريان ضرورة الأخذ بها لصالح تطور الكتابة التاريخية في الأردن وسلامة منتجها، من أبرزها:
– صعوبة إطلاق حكم عام على ما أُنجز في إطار الكتابة التاريخية طيلة المئة سنة الفائتة، كماً
ونوعاً.
– ملاحظتهما أوجه القصور والإهمال التي طالت بعض الحقب والمجالات في الدراسات التاريخية، مثل إهمال تاريخ أوروبا في العصور القديمة والوسطى والحديثة والمعاصرة، و تاريخ آسيا وأممها ودولها، و تاريخ شمالي أفريقيا وشرقها، وتاريخ بقية دول أفريقيا وشعوبها، وتاريخ العالم الجديد وحضارات شعوبه الأصلية. وتجلى قصور التدوين التاريخي في الأردن أيضًا في كتابة التاريخ القديم والإسلامي لوطننا الأردن؛ ويعود هذا القصور والإهمال إلى النقص الشديد في أعداد الباحثين والآثاريين الشباب الذين يتقنون اللغات القديمة والحديثة.
– ضرورة أن تولي الجهات ذات العلاقة في الجامعات ومراكز البحث العلمي عنايتها واهتمامها لتدارك الأخطاء وإيقاف فوضى النشر في الموضوعات المستهلكة وبالمناهج غير العلمية في مجال الكتابة التاريخية.
– أهمية أن ينتظم التدوين التاريخي الأردني في إطار مؤسسي مستدام، بعيداً عن الإرتهان للآنية التي استوجبتها المناسبات الوطنية، أو التحرك ردّاً للفعل عندما تتعرّض المملكة وقيادتها للهجمات الإعلامية التي تقلل من دورها أو تنتقص من جهود قادتها الهاشميين.
– التأكيد بأن أي مشروع قائم على اللجان مصيرة الفشل أو على الأقل قلة المنجز وخمول الذكر. وهما هنا يشيران إلى فشل اللجان الرسمية في إنجاز تدوين تاريخي يعتدّ به، نظراً لما يعتري تشكيل اللجان من أمراض البيروقراطية الأردنية المعهودة. والتمسا العذر لجمعية المؤرخين الأردنيين لعدم مساهمتها في إثراء المحتوى التدويني الأردني في التاريخ مقارنة بجهود ومساهمات نظيراتها العربية والأجنبية.
– دعوة المجلات الرصينة في الأردن، مثل: مجلة مجمع اللغة العربية، والمجلة الأردنية للتاريخ والآثار إلى إفراد باب في أعدادها الصادرة للمراجعات ونقد المؤلفات والكتب (Book review)، مما يخفف من فوضى نشر الدراسات والمؤلفات الرديئة أو الضعيفة، ويجعل مؤلفيها عُرضة للانتقاد.
– ضرورة تأني أقسام التاريخ في الجامعات الأردنية، عند النظر في الموضوعات المقدّمة من الطلبة لغايات النظر في الموضوعات المقدّمة لغايات إعداد الرسائل والأطاريح الجامعية، وبذل الجهد الكافي في التحري عن موضوع الدراسة، ودعوة الجامعات لانتهاج سياسة جديدة في إجراءات مناقشة الرسائل الجامعية.
– ضرورة انتهاج سياسة أكثر صرامة وسرية في تحكيم البحوث المقدمة للنشر في المجلات المحكّمة، والأمر ذاته ينسحب أيضاً على تقييم المواد المقدمة للنشر أو تحصيل الدعم المالي من وزارة الثقافة الأردنية أو المؤسسات والمراكز المماثلة.
– إتاحة المجال للباحثين في حقل التاريخ للاطلاع على الأرشيف المتوفر في المؤسسات والدوائر الرسمية الأردنية.
– تعديل أسس الترقية في الجامعات الأردنية بمنح الكتب المؤلفة والمتميزة وزناً أعلى من البحوث المنشورة في المجلات، بعد إخضاع هذه الكتب للتحكيم والتقييم تقييماً علمياً.
وفي الختام، يُقدّرُ للمولفيّن الكريمين الجهد الكبير الذي بذلاه في جمع المعلومات وتصنيفها وتحليلها، وهي معلومات واسعة متفرعة ومتناثرة، ليس من السهل ملاحقتها في ظل غياب البيانات الببلوغرافيه المنتظمة للمصنفات الأردنية في حقول التاريخ. فاحتاجت الدراسة من الباحثيّن عملاً دؤوباً دقيقاً لسنوات عدة لتخرج علينا بهذه الحلة الوافية مضموناً وشكلاً، ولتشق الطريق أمام المزيد من الدراسات المنهجية للتدوين التاريخي الأردني، ولتؤسس لثقافة نقدية منهجية جادة للنتاج المعرفي والثقافي والفكري والعلمي في بلادنا، ونحن نتطلع نحو مستقبل أكثر تقدّماً ورقيّاً لها ولأجيالنا الناهضة.