صدى الشعب – كتب د. فيصل القاسم
عندما تطرح السؤال أعلاه، لعل أول ما يتبادر إلى ذهن القارئ أن آلاف المصانع العالمية انتقلت إلى الصين من بلدان عديدة، فقط لأن عدد الصينيين كبير جداً، ولديهم كمية هائلة من الأيدي العاملة الرخيصة التي تستطيع تشغيل أعداد مهولة من المصانع، مما يجعل القوى الصناعية في العالم تختار الصين كوجهة لمصانعها لتحقيق أكبر عائد تجاري بعيداً عن أنظمة الضرائب الغربية، والاستفادة من رخص النفقات على صعيدي العمل وتكاليف الإنتاج.
في كتابه الشهير «حكام العالم الجدد» يذكر الكاتب الأسترالي جون بيلجر، الذي غادر هذه الدنيا، قبل فترة الكثير من التفاصيل المثيرة جداً حول الاستغلال الرأسمالي للأيدي العاملة الرخيصة في آسيا، وخاصة في إندونيسيا وفيتنام، وتايلاند، والفلبين، والصين. ولا شك أن القارئ سيصاب بصدمة كبرى عندما يقرأ حجم الاستغلال الغربي لتلك البلدان وأيديها العاملة، وكيف كانت المصانع الغربية الجشعة تترك عمالها الآسيويين يعيشون في ظروف مأساوية دون أدنى أساسيات الحياة مقابل تكديس أرباح خيالية.
ويستشهد بيلجر في كتابه بأشهر الماركات العالمية للألبسة والأحذية الرياضية التي كانت تنتج منتجاتها في تلك الدول الآسيوية، وكيف كانت تدفع رواتب زهيدة للغاية للعمال الآسيويين، لا يتجاوز أجر العامل يومياً أقل من دولار واحد أحياناً، بينما كان العامل ينتج يومياً أحذية وألبسة لتلك المصانع تفوق قيمتها السوقية آلاف الدولارات.
وقد كانت الصين في ذلك الوقت فعلاً تنافس بقية البلدان الآسيوية في رخص الأيدي العاملة، لا بل إن بيلجر يذكر في كتابه أن الصينيين تواصلوا ذات يوم مع المسؤولين الكبار في إحدى الشركات الغربية، وسألوهم: «كم تدفعون للعامل في مصانع الأحذية الرياضية بإندونيسيا يومياً» فقال المسؤولون الغربيون: «ندفع أقل من دولار» فكان الصينيون يقولون لهم: «انقلوا مصانعكم إلى الصين وسنوفر لكم عمالاً وفنيين بأقل من نصف دولار كأجر يومي». وفعلاً نجحت الصين في فترة من الفترات في اجتذاب مئات المصانع إلى أراضيها بسبب رخص الأيدي العاملة الرهيب.
إذن، ليس من الغريب أن يستنج القارئ من عنوان المقال أن الصين أصبحت مصنع العالم بسبب الأيدي العاملة زهيدة الأجر، لكن هذا الاستنتاج ربما كان صحيحاً قبل عقود وعقود عندما كان الناتج الإجمالي المحلي في أضعف الدول الأوروبية مثل إيطاليا يفوق الناتج الصيني، وعندما كانت الصين خارج منظومة السبعة أو حتى العشرين الكبار.
استثمرت الصين خلال العقود الماضية المليارات في التعليم التقني والتكنولوجي والصناعي، وقد غدا ملايين الصينيين، الذين كانت تستغلهم الشركات الغربية في صناعة الأحذية والملابس، علماء وخبراء في أعظم الصناعات
وفعلاً كانت بعض الدول الأوربية تتفوق على الصين من حيث حجم الإنتاج ورأس المال، ولعلنا نتذكر أن الناتج القومي لبعض الدول الأوروبية كان يتجاوز التريليون دولار، بينما كان ناتج الصين المحلي السنوي أقل من ذلك بكثير، وكنا نتساءل وقتها: هل يعقل أن بلداً أوروبياً صغيراً كإيطاليا يتفوق على الصين ذات المليار نسمة وأكثر في إجمالي الناتج الإجمالي المحلي؟ نعم، فقد حدث ذلك بالفعل.
لكن خلال عشرين عاماً أو أكثر قليلاً، انتفضت الصين انتفاضة غير مسبوقة تاريخياً، بحيث وصلت نسبة النمو في بعض السنوات إلى أكثر من ثلاثة عشر في المئة، بينما كانت لا تزيد على اثنين في المئة في الدول الأوروبية وحتى في أمريكا نفسها. وهذا بدوره جعل الصين تقفز قفزات تاريخية على صعيد إجمالي الناتج القومي السنوي، مما ترك كل الدول الأوروبية دون استثناء، تقبع وراء الصين خلال فترة وجيزة، بما فيها ألمانيا أكبر قوة اقتصادية في أوروبا.
ولا شك أن القارئ ربما سيتساءل هنا: هل تفوقت الصين على الغرب خلال فترة قياسية من خلال رخص الأيدي العاملة؟ والجواب بالتأكيد لا، فقد حققت الصين نهضة علمية وتكنولوجية وصناعية غير مسبوقة، وانتقلت بالشعب الصيني إلى مرحلة جديدة تماماً ليس فقط على مستوى التصنيع المحلي، بل أيضاً على مستوى تأجير الأيدي العاملة والمهارات الصينية الجديدة للمصانع الغربية.
وقبل فترة أجرت إحدى القنوات مقابلة مهمة مع تيم كوك المدير العام لشركة آبل الأمريكية، وهي من أشهر وأغنى الشركات في العالم التي تنتج أجهزة الكومبيوتر والموبايل في الصين.
وقد كان جواب كوك صاعقاً عندما سألوه: «لماذا تنتج شركة آبل معظم منتجاتها في الصين؟» فقال الرجل: «قد تعتقدون أنني سأقول لكم إن سبب ذهابنا إلى الصين لإنتاج أجهزتنا هو رخص الأيدي العاملة، لكن دعوني أقول لكم إن هذا الكلام كان أيام زمان، أما اليوم فلم نعد نختار الصين كمركز لمصانعنا لأنها توفر لنا الأيدي العاملة الرخيصة، لا أبداً.
ودعوني أخبركم أيضاً أن الخبير الصيني لم يعد رخيص الأجر أبداً، بل صار مكلفاً بالنسبة لنا، مع ذلك فإننا لم نجد أفضل من الصين» فسأله المذيع لماذا، فأجاب تيم كوك: «يا عزيزي فكرنا أكثر من مرة بإنشاء مصانع لنا على الأرض الأمريكية، وبدأنا بتوظيف الخبرات والمهارات اللازمة للمصنع من فنيين ومهندسين ومدراء، وبعد أشهر وأشهر لم نستطع تأمين ربع العدد المطلوب لإطلاق المصنع، لأنه ليس لدينا في أمريكا ما يكفي من الأيدي العاملة الماهرة، لهذا اضطررنا للتوجه إلى الصين، وهناك تستطيع تأمين آلاف المهندسين والفنيين والخبراء المحترفين بسرعة هائلة، فالصين لم تعد مخزناً للأيدي العاملة الرخيصة، بل صارت أكبر مخزن للأيدي العاملة الماهرة والمختصة في العالم».
باختصار، فقد استثمرت الصين خلال العقود الماضية المليارات في التعليم التقني والتكنولوجي والصناعي، وقد غدا ملايين الصينيين الذين كانت تستغلهم الشركات الغربية في صناعة الأحذية والملابس، غدا الكثير منهم اليوم علماء وخبراء في أعظم الصناعات الدقيقة كأجهزة الموبايل والكومبيوتر والذكاء الاصطناعي والسيارات والقطارات والطائرات وأجهزة الفضاء، وبالتالي أصبحت الصين اليوم مصنع العالم بجدارة واستحقاق.