لقد رأينا الملك غاضبا كما لم نره من قبل وقد خاطب المسؤولين عموما بأقوى العبارات، فكيف نتعامل مع اعلانه القاطع لا بل انذاره الحازم بأن كفى !! كيف نجمع بين الإجراءات العاجلة وتلك بعيدة المدى لننته مرّة والى الأبد من المراوحة ووضع الأمور حقا وفعلا على السكة، سكة التقدم والعصرنة والحكم الرشيد والكفاءة والفعالية والمشاركة الديمقراطية والمساءلة والمحاسبة وخنق الفساد.
في مثل هذه الظروف، ما بين الارتفاع الشرس لإصابات كورونا وفاجعة السلط وعودة الاحتجاجات الغاضبة تصبح ادارة الموقف امتحانا لا تحسد عليه أقوى الحكومات. كيف يمكن التوفيق ودون تلفيق بين تحديات طارئة واستراتيجية؟ كيف يمكن فك اشتباك التزاحم والتداخل في الأولويات لا بل تضاربها احيانا بين الفنّي والاداري والاقتصادي والسياسي، أو بين المتطلبات الاستراتيجية والاحتياجات التكتيكية. وخذ مثلا الاستجابة لتحديات الاصلاح السياسي والاداري بعيد المدى مع التحديات الفورية لمختلف القطاعات إزاء التفشي الخطير للوباء والمخاطر التي تواجه الجهاز الصحي.
ثمّة إجرءات عاجلة لاستدراك الثغرات الخطيرة التي صنعت فاجعة مستشفى السلط، لكنّا نعرف ونعي ان ماحدث ليس مجرد مشكلة فنية معزولة بل ثمة ما هو ابعد ويتمثل بواقع الترهل الاداري المزمن للقطاع العام. والحال ان لدينا جزرا معزولة تمثل قصص نجاح تفش الغلّ لكنها تقع خارج السياق العام لحالة التردي والفشل للبيروقراطية الحكومية. كل الادعاءات بالمشاريع والبرامج الخاصّة بالتطوير الاداري والتي أنشأنا من اجلها وزارة تطوير القطاع العام ثم ادارة تطوير الأداء المؤسسي والسياسات في رئاسة الوزراء مع وزير دولة على رأسها لم تكن الا طحنا للماء في نفس الإناء. وكل الاستراتجيات على الورق وفي أجهزة الكومبيوتر والنماذج التي تنشغل وتتدرب المفاصل الادارية على تعبئتها تنتهي هدرا للوقت والجهد على شكليات همها أن تقول « كل شي تمام يا افندم» .
كيف يمكن الجمع بين ادارة الأوضاع الطارئة وصياغة الخطط الاستراتجية وأكثر من ذلك كيف نقدم طرحا مقنعا يجسر فجوة الثقة المتسعة بإضطراد مع الفصام الأبدي بين الأقوال والأفعال؟ من جديد يعود الربط الأكيد بين الاصلاح الاداري والسياسي، وقد رأينا ردود الفعل الغاضبة على حادثة السلط تقفز سريعا الى مطالب الاصلاح السياسي فهذه المطالب لم تختف ابدا بل بقيت كالجمر يظهر مع كل نفخة قوية تحت الرماد، كما هو الحال مع حادثة السلط التي بكرت بخروج الحراكات رغم ظروف الوباء وبالرغم من أوامر الدفاع والحظر والمخاطر الرهيبة للتجمهر الذي يمكّن الوباء من الانتشار كما تمكّن الرياح النار من الهشيم. ولا تستطيع السلطات بالطبع السماح بهذا التهور، لكن لا ينفع ولا يكفي قمعه ومنعه وتجاهل قضيته، فهناك بطالة مخيفة وفقر وتهميش ومعاناة زادت تفاقما مع الوباء ولا يمكن الاستمرار بدفن الجمر تحت الرماد!
لكن كم مشروع وكم وثيقة اصلاح طرحت ثم طويت على الأرفف؟! حتى الأوراق النقاشية الملكية ذاتها وهي آخر أدبيات الاصلاح وخارطة طريق لا نحتاج معها الى المزيد راحت الى الأرشيف؟! كيف ندير خطة تنفيذية للاصلاح مقنعة وموثوقة وملزمة وعابرة للحكومات؟ الأردن لم يقع ولن يقع لكنه يستحق الأفضل.