لن ينتهي الجدل قريباً حول تسييس وباء كورونا وتجليات هذا التسييس. ويبدأ الحوار من افتراض البعض أن الصين، أو شركات الأدوية أو غيرها صنَّعوا الفيروس الفتاك وأطلقوه لجني مكاسب سياسية أو اقتصادية، ولا ينتهي بربط قرارات وإجراءات الحكومات لمكافحة الوباء بغايات سياسية. ومن المؤكد أن تدابير الحظر والإغلاق خلَّقت المزيد من السخط لدى المتضررين، سواء من حيث نظرية الحرية بمعانيها المطلقة، أو الخسائر المادية والنفسية التي رتبتها القرارات والإجراءات.
البعض اختاروا موقف الإنكار المطلق لوجود المرض من الأساس. والبعض قالوا إنه موجود، وإنما لخدمة أغراض جهات. والبعض قالوا إنه موجود، بغض النظر عن سبب وجوده، وخطير على حياة الأفراد ورفاههم ويستوجب إيقافه استنفاراً وجدّية كاملين. وفي الحالة الأخيرة، ينبغي الاسترشاد بالعِلم وتحييد الحسابات السياسية -إلا عندما يتعلق الأمر بفشل صُناع القرار في اختيار أفضل الممارسات الموصى بها لوقف تفشي الوباء وتقليل الخسائر.
بطبيعة الحال، هناك أطباء يُعتبرون سلطة، بحكم شهاداتهم العلمية ومناصبهم، والذين يشككون في الوباء، وفي الإجراءات، وأخيراً في اللقاحات. وهناك مثقفون وناشطون يتمتعون بسلطة التأثير أيضاً، والذين يتبنون هذه الاتجاهات المتشككة. والمرء حُر بالتأكيد في اختيار التفسيرات التي تتوافق مع هواه. لكنّ هناك شبه إجماع علمي عالمي يؤكد أن الفيروس موجود ومؤثر كما هو، ويوافق على إجراءات وبروتوكولات واستراتيجيات وحلول لمواجهته على أساس العلم. ويفترض المنطق أن يترك المرء الاقتراحات الهامشية المناقضة للإجماع والاجتهادات الشخصية غير المستنيرة ويذهب مع العِلم.
لكنَّ الخلط بين العلم والسياسة، وعدم اتخاذ موقف واضح يفصل بينهما في مسألة وباء مثل التي نحن بصددها، قد يدفع إلى رفض كل شيء يأتي من الحكومات، على أساس مبدأ رفض التعاطي معها جملة وتفصيلاً. وعلى هذا الموقف يتأسس شيء مثل رفض ارتداء الكمامة، ورفض التباعد الجسدي والإصرار على ارتياد التجمعات وحشدها، انطلاقاً من «المجاكرة» البحتة. وهناك طبعاً أولئك الذين لا ينطلقون في ذلك من دافع مسيّس -بالتعريفات الضيقة للسياسة- وإنما من باب موقفهم الموضوعي من صراع العلم مع الخرافة.
في مسألة الحظر والإغلاقات، مثلاً، ليست هذه التدابير ابتكارات محلية –خاصة في الدول الضعيفة التي ليس لديها خيار سوى محاكاة ما يفعله الكبار. كان الذين بدأوا هذه التدابير هم الصينيون أولاً، ثم أكبر الدول وأكثرها تقدماً. ولذلك، ليس من الإنصاف اعتبار تطبيق السلطات المحلية هذه الإجراءات استهدافاً سياسياً لمواطنيها في سياق إخضاعي صرف. لا شك أن حبس الحرية إخضاع، لكنه في هذه الحالة مبرر بحفظ الأرواح وتقليل الموت. ولم تتراجع الأنظمة الموصوفة بالديمقراطية عن استخدام الحظر الكلي أو الجزئي، لتقلل ما أمكن الاختلاط فانتقال العدوى –ولو أثّر ذلك على الاقتصاد؛ تُستثنى الدول حيث تُحبط ثقافة المواطنين والتزامهم أي ذرائع يمكن أن توظفها السلطات لفرض أشياء من الأعلى: الوضع الوبائي مستقر، فلماذا الحظر أو منع الاجتماع والتجمع وقوانين الطوارئ؟
الآن، ظهرت ماركات مختلفة من اللقاحات التي تعِدُ بوقف التفشيات وحفظ الحياة. وتخوض الدول صراع بقاء حقيقي لحجز أي شيء منها لمواطنيها. وحسب العلم، وباستبعاد المناهضين القلائل لمختلف الأسباب، فإن اللقاحات هي الطريقة الوحيدة لاحتواء الجائحة والعودة إلى ما يشبه الحياة الطبيعية. ومع ذلك، يرفض كثيرون الإجماع العلمي تقريباً على إجازة هذه اللقاحات والتوصية بتلقيها. أحياناً، ينطلق الرافضون من نظرية المؤامرة، أو الخرافة. وأحياناً ينطلقون من الرفض كرفض، على أساس شك بنيوي في كل شيء يصدر عن السلطات باعتبار أن أي شيء يأتي منها لن يكون خيراً، نقطة.
حسب الرواية العلمية السائدة، سيكون رفض الكمامات والتباعد وقَصر المخالطة على الضروريات، ثم رفض اللقاحات في نهاية المطاف، كفعل احتجاج، أشبه بإحراق المرء نفسه يأساً. وليس إحراق النفس خلاصة صحية لأي نضال، بغض النظر عن وجاهة المقدمة.
يخوض المرء أي معركة ليعيش، لا ليموت. والاحتجاج برفض ما يحفظ الحياة -بتوصية العلم- هو انسحاب واستسلام مبكر وركون إلى الهزيمة. وإذا كانت تدابير حفظ الحياة، وآخرها اللقاح، هي الطريق الموصوف إلى استعادة الطبيعية وفتح الاقتصاد، لن تكون معارضتها فكرة داعمة لذاتها للاحتجاج. إنها وصفة لإحباط الذات لتكثيف المعاناة العامة وإطالة أمدها فحسب.