صدى الشعب – كتب داود عمر داود
المشروع الإيراني في المنطقة:
لقد اكتسبت إيران من أمريكا شرعية هيمنتها على المنطقة العربية، ومد نفوذها الإقليمي فيها، خلال العقدين الماضيين. وهذا ما أفصح عنه بصراحة “بول بريمر”، الحاكم الأمريكي للعراق بعد الاحتلال، حين قال إن بلاده سمحت لإيران “الشيعية” بمد نفوذها الى المنطقة العربية المسلمة (السنية)، بعد أن حكمها المسلمون لأكثر من ألف عام، وأنه آن الأوان أن يحكمها الشيعة، كما زعم. ومن هنا جاء الاعتراف الأمريكي بشرعية دور الملالي في العالم العربي. وهكذا سارت الأمور، منذ ذلك الحين.
وهذا ما سُمي بـ “المشروع الإيراني” الذي قام على المبدأ الذي وضعه الخميني في “تصدير الثورة” ونشر التشيع في المنطقة والعالم. وعندما تفاهمت إيران وأمريكا على التعاون في العراق، كان في ذهن القيادة الإيرانية “تصدير الثورة”.
أما أمريكا فتحالفت مع إيران حتى تجعل منها “شرطياً” للمنطقة، تعمل لحسابها، تماماً مثلما كان الشاه من قبل “شرطي الخليج”.
هدف إيران إعادة إحياء إمبراطورية فارس القديمة:
وهكذا قدم الأمريكيون المنطقة على طبق من ذهب لإيران، اعتباراً من سنة 2003، بعد سقوط نظام صدام حسين في العراق، تلاه بسط النفوذ الإيراني في سوريا، ثم لبنان، وبعده اليمن. واعتبر الملالي أن المنحة الأمريكية تعطيهم شرعية إحياء إمبراطوريتهم الفارسية القديمة. وما أن تمدد نفوذها، واكتسبت مزيداً من الثقة بالنفس، حتى انكشفت نوايا إيران الحقيقية أمام الأمريكيين، بعد أن عبّروا عن ذلك على الملأ.
وبما أن أمريكا ليست بصدد السماح بقيام إمبراطوريات جديدة تصبح منافسةً لها، لم تطمئن للجانب الإيراني.
وأصبحت نظرة الأمريكيين لإيران نظرة ريبة وشك، وانها ليست محل ثقة لدى أصحاب القرار.
وهذا وضع الأمريكيين في حيرة، وشعروا أنهم في ورطة صادمة بالنسبة لهم، بعد انكشاف نوايا إيران.
كيف حاولت أمريكا معالجة الموقف:
ولمعالجة الموقف الصادم، اتبعت واشنطن سياسة العصا والجزرة مع طهران، التي استمرت لسنوات طويلة. ووصل الأمر حداً أن أصبحت واشنطن تتوعد إيران وتهدد بضربها، وكأنهما أعداء. بينما كان الهدف تخويفها كي تتراجع عن أحلامها الإمبراطورية، وتعود إلى المسار المتفق عليه. وظهر الأمر على السطح وكأنه عداء متبادل، لكنه في الحقيقة لم يخرج عن كونه خلافاً بين الحلفاء.
يأس واشنطن من تخلي إيران عن أحلامها الإمبراطورية:
في هذه الأثناء بدأت أمريكا بوضع خطط استراتيجية جديدة لإعادة تشكيل المنطقة بدون الدور الإيراني. وهذا ما تصفه تصريحات السياسيين في المنطقة بـ “التحولات الكبرى والجذرية”، و”تغيير خارطة الشرق الأوسط”، وغير ذلك من تعبيرات لوصف التطور الجديد. لكن التغيير لن يطال خارطة سايكس – بيكو، كما يظن البعض، بل سيطال خارطة النفوذ الأمريكي في المنطقة، كما يريدها الكاوبوي.
إسرائيل تحلم بتولي دور إيران الإقليمي:
لذلك استغلت إسرائيل هذا التوجه الأمريكي، نحو تغيير خارطة نفوذها في المنطقة، وأطلقت العنان لخيالها، وأخذت تحلم بما هو أتٍ، على أمل أن يمنحها الأمريكيون شرعية مد نفوذها خارج حدودها. فطرحت إسرائيل نفسها، أمام السيد الأمريكي، كبديل لإيران، حتى تلعب الدور الذي لعبه الملالي لصالح أمريكا، خلال العقدين الماضيين. وتولد لدى ساستها المتطرفين، المهووسين بالتوسع، شعورٌ بالحماسة، وطاروا من الفرحة الكاذبة.
أمريكا لا تثق في إسرائيل ولا في إيران:
لكن إسرائيل ليست محل ثقة، لدى صاحب القرار الأمريكي، تماماً مثلما هي إيران. ولن تفكر الولايات المتحدة بمنح إسرائيل أي نفوذٍ خارج حدودها أبداً. والسبب بسيط أن إسرائيل لديها أحلام توسعية مثل إيران. فهي تعلن عن ذلك، وتنشر الخرائط، حول حلمها في إقامة “إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات”، بينما أمريكا لن تسمح لأيٍ كان، كما قلنا، بإقامة إمبراطوريات تنافسها، لا الآن ولا في المستقبل. لذا هي لا تكتفي بعدم منح إسرائيل أي نفوذ، بل هي تسعى منذ عقودٍ لتحجيم دورها في المنطقة. لكن إسرائيل تتفلت من التحجيم، وتسعى للعب دورٍ أكبر من حجمها.
الطموح الأمريكي: إضعاف الإمبراطوريات القائمة وضمان عدم قيام غيرها:
وهكذا فإن أمريكا تريد ضمان عدم قيام إمبراطوريات جديدة تنافسها، وتسعى في ذات الوقت، لإضعاف الإمبراطوريات القائمة، مثل الصين وروسيا، كما أضعفت من قبل إمبراطوريات أوروبا، بإزاحتها عن الصف الأول إلى الثاني والثالث، وأفقدتها أهميتها. فأمريكا تريد أن تبقى هي الأولى في العالم، ولا تريد منافسين لها في القمة.
فبعد أن كانت هناك إمبراطوريات “لا تغيب عن سمائها الشمس”، مثل بريطانيا، أصبحت دولةً تتغنى بأمجادها الاستعمارية القديمة، ويكفيها لو ظلت تحت الشمس. فقد تقلصت أحلامها اليوم لإبقاء بعض النفوذ هنا أو هناك، بحيث لا تنافس ولا تزعج الدولة الأولى، ولا تخالف رأيها. وكذلك حال فرنسا، والمانيا، وباقي المستعمرين القدامى في القارة العجوز.
تركيا تأخذ دور إيران الإقليمي:
لذلك يبدو أن الولايات المتحدة قد حسمت أمرها وقررت إناطة الدور الإقليمي، الذي كانت قد منحته إلى إيران منذ عقدين، إلى تركيا، فهي الحليف الموثوق بالنسبة لأمريكا، المؤتمنة على 50 قنبلةٍ نوويةٍ أمريكية موجودة على أراضيها، في قاعدة انجرليك التركية، قبل أكثر من ستين عاماً، منذ أزمة الصواريخ الكوبية.
يضاف إلى ذلك أن تركيا دولة مسلمة قوية وغنية ولها حضارتها، وحضورها المقبول إقليمياً ودولياً، ولعبت أدواراً عالمية أثبتت جدارتها من خلالها، وهي عضو في حلف “الناتو”.
والأهم أن تركيا تنتفي عن سياستها صفة الغدر والخيانة للحليف، فلا “تقية” في مفاهيمها السياسية، رغم أن رئيسها الحالي رجب طيب أردوغان يعتبر داهية وأحد ثعالب السياسة في العالم، لذلك هي التي اختارتها واشنطن لتتولى إدارة المنطقة نيابة عن الأمريكي الذي يتطلع منذ سنين للتفرغ لمناكفة الصين في عقر دارها.
ترامب يشيد بدور أردوغان في إسقاط نظام الأسد:
وقد أقر بهذه الحقائق الرئيس الأمريكي المنتخب، دونالد ترامب، حين أشاد بالرئيس التركي أردوغان، وقال أنه “استطاع بذكاء أن يبني جيشا قويا، وأن وتركيا دولة قوية ربحت، وهي ستكون رابحة في المستقبل، أنا أعرف ذلك. وأعرف القوة التي غيّرت المعادلة في سوريا.
إنها تركيا، تركيا تقف بقوة خلف إسقاط نظام بشار الأسد. أردوغان زعيم ذكي للغاية استطاع تحقيق ذلك بطريقة هادئة”.
خلاصة القول: مصير إيران بعد فشلها الذريع:
هذا بينما تفتقر إيران لكل هذه الصفات والمزايا، وأثبتت للأمريكي أنها لا يؤتمن جانبها، حيث أمضت العقود الأربعة الماضية، وهي تسعى لـ “تصدير الثورة”، التي هي بذرة الفناء التي جاءت معها. وقد فشلت إيران في كل صراعاتها وحروبها وتحدياتها، في محاولة لإثبات الذات لكيان منبوذ ومرفوضٍ دولياً وإقليمياً، وعلى جميع الأصعدة.
لقد انتهت إيران كما نعرفها اليوم، ولن يتركها الأمريكيون في حال سبيلها، فهي إما أن تتعرض للتقسيم، وإما أن يُستبدل نظام الملالي بعودة النظام الشاهنشاهي، والأغلب أن يعود نظام الشاه، حسبما صرح بذلك “تيد كروز”، السياسي الأمريكي المتنفذ المقرب من ترامب، حين أعلن على الملأ مؤخراً “أن أيام نظام طهران أصبحت معدودة”.