الجوابرة لـ”صدى الشعب”: المستقبل لمن يحلل ويبتكر
صدى الشعب – سليمان أبو خرمة
في زمنٍ لم تعد فيه المعرفة حكرًا على أحد، وإنما متاحة بضغطة زر، تتجه ألانظار إلى نوع آخر من المهارات باتت تُحدّد مستقبل الأفراد والمجتمعات وهي مهارات التفكير التحليلي، فالعصر الرقمي، بتحدياته المتسارعة، لم يعُد يكتفي بمن يمتلك المعلومة، بل يتطلّب ممن يتعامل معها أن يفكّكها، ويفهم سياقاتها، ويحوّلها إلى حلول مبتكرة وقرارات.
ومع تصاعد التحولات في بيئات العمل والتعليم، تبرز الحاجة إلى إعادة بناء عدداً من منظومة التعلم، لتتجاوز الحفظ والتلقين، وتتجه نحو التفكير النقدي والتحليل المنهجي.
وهذا الإطار، أكدت الخبيرة التربوية الدكتورة نورا الجوابرة أن تسارع الأحداث وتدفق المعلومات في العصر الحديث لم يَعُد يَجعل من امتلاك المعلومة بحد ذاته ميزة، بل باتت القدرة على تحليل المعلومات وفهم أبعادها المختلفة هي العلامة الفارقة بين الأفراد، مشيرة إلى أن هذا التحول يُبرز أهمية التفكير التحليلي كأداة أساسية لفهم الواقع واتخاذ القرارات الرشيدة.
وأوضحت الجوابرة خلال حديثها لـ”صدى الشعب” أن التفكير التحليلي يُعنى بتفكيك المعلومات إلى عناصرها الأولية، وفهم العلاقات والروابط بينها، ثم تفسيرها بشكل منطقي، بما يساعد على الوصول إلى أفضل الحلول والاستنتاجات، معتبرةً أن هذه المهارة أصبحت ضرورة حتمية في ظل عالم لا يتوقف عن التغيير.
وأضافت أن هناك فرقاً جوهرياً بين “التعليم القائم على التفكير التحليلي” و”تعليم التفكير التحليلي”؛ فالأول يعمل على دمج هذه المهارة في جميع المواد الدراسية والأنشطة التعليمية، بحيث تصبح جزءاً من العملية اليومية للتعلم، بينما الثاني يركّز على تعليم التفكير التحليلي كمهارة مستقلة، يتم تدريب الطلبة عليها عبر خطوات منظمة مثل تحليل المشكلات ودراسة الحالات الواقعية.
سوق العمل يبحث عن المفكرين لا الحافظين
وأكدت أن أسباب تصاعد أهمية التفكير التحليلي عديدة منها التحولات التكنولوجية والمعرفية الهائلة جعلت المعلومة متاحة للجميع، إلا أن سوق العمل المعاصر لم يعد يهتم بمن “يحفظ” المعلومة، وإنما بمن “يحلل” و”يبتكر”.
ولفتت إلى أن الوظائف المستقبلية تتطلب أفراداً قادرين على تفكيك المشكلات المعقدة، وربط التفاصيل الصغيرة بالصورة الكاملة، خاصة في مواجهة تحديات عالمية مثل الأزمات الاقتصادية والبيئية والاجتماعية.
وأشارت إلى أن التفكير التحليلي يزرع في المتعلم مجموعة من المهارات الجوهرية مثل حل المشكلات المعقدة، والتفكير النقدي، والتمييز بين الحقائق والآراء، واتخاذ قرارات قائمة على الأدلة، وإدارة المعلومات، وتحليل البيانات، والتواصل المنطقي، والإقناع.
كما نوهت بأن هذه المهارات لا تقتصر على دعم الأداء الأكاديمي للطالب الجامعي في أبحاثه ودراساته، بل تمنحه قدرة أكبر على الابتكار، وتؤهله لتحقيق كفاءة عالية في سوق العمل.
التعلم النشط بدلاً من التلقين
وأكدت أن التفكير التحليلي يمثل تحولاً جذرياً في أسلوب التعليم، إذ يستبدل أسلوب الحفظ والتلقين بالتعلم النشط، فيجعل الطالب شريكاً في عملية التعليم وليس مجرد متلقٍ، وهو ما يسهم في تعميق الفهم وتقليل النسيان، حيث ترتبط المعلومات بالسياق والمعنى، ما يفتح الأبواب أمام التفكير الإبداعي والخروج عن النماذج التقليدية.
وأشارت إلى وجود تحديات تعيق الانتقال نحو هذا النهج من أبرزها هيمنة ثقافة الامتحانات التقليدية، وضعف تدريب المعلمين على استراتيجيات التحليل، والمناهج الدراسية المزدحمة، بالإضافة إلى ضعف البنية التكنولوجية في بعض المؤسسات التعليمية.
وشددت على أن التكنولوجيا يمكن أن تكون شريكاً استراتيجياً في هذا التحول، موضحة أن أدوات تحليل البيانات، والمحاكاة الافتراضية للمواقف، والتجارب التعليمية المخصصة، كلها وسائل تتيح بيئة مثالية لتطبيق مهارات التفكير التحليلي في الواقع.
ضرورة تدريب المعلمين وتعديل المناهج
ودعت إلى أن تتبنى وزارة التربية والتعليم رؤية شاملة لدعم التفكير التحليلي، عبر تدريب المعلمين على أساليب تدريسه، وتعديل المناهج لتتضمن أنشطة تحليلية وحل مشكلات، وتطوير أدوات التقييم لقياس الفهم العميق، إضافة إلى دمج التكنولوجيا التفاعلية داخل الصفوف، وتشجيع النقاشات والمشروعات البحثية.
كما لفتت إلى أن دراسة الحالات الواقعية، والمشروعات التطبيقية، والمهام المعتمدة على التفكير، والأسئلة المفتوحة، والعروض التقديمية، تمثل بدائل فاعلة عن الامتحانات التقليدية، حيث تكشف عن قدرة الطالب على التحليل لا مجرد الحفظ.
واكدت أن تعزيز التعليم القائم على التفكير التحليلي يثمر مجتمعاً أكثر وعياً، وسوق عمل أكثر تنافسية، وجيلاً قادراً على النقد البنّاء، وحل المشكلات، ودعم الابتكار وريادة الأعمال، مما يخلق ثقافة حوار إيجابية ويعزز قدرة الأفراد على التعامل مع متغيرات العصر بثقة وكفاءة.






