المطاعيم بين الترغيب والترهيب

فتح التقرير الذي نشرته صحيفة العربي الجديد الأعين على بعض الممارسات التي يقوم بها بعض الرافضين لتلقي المطعوم المضاد لـ(فيروس كوفيد19) من خلال الاستعانة بـ”الواسطة” أو حتى دفع الرشوة للحصول على شهادات مزورة أو حتى الالتماس لدى المتطوعين في مراكز التطعيم لإتلاف المطعوم بحقنة خارج الجسم.
هذه الممارسات وإن كانت محدودة وعلى نطاق ضيق إلا أنها تعيد إلى الواجهة طرح سؤال مهم فيما يتعلق بالأخلاقيات المتعلقة بالمطعوم، ومدى نجاعة الإجراءات التي تتخذها الدول للتغلب على تخوّف وتردّد البعض في الاقبال على تلقيه، ومدى التزام هذه الإجراءات بالأخلاقيات.
وقد تزامن إعلان هذا التقرير مع ما تناقلته وسائل الإعلام من مشاهد لمظاهرات غاضبة نظمها بعض العاملين في القطاع الصحي في فرنسا احتجاجاً على القرار الذي اتخذته الحكومة الفرنسيّة حول إلزامية التطعيم لمنتسبي هذا القطاع. والجدل الدائر حول أخلاقية إلزامية التطعيم ليس حديثا فقد رافق ظهور المطاعيم منذ البدايات، وكانت بريطانيا اعتمدت هذه السياسة في مواجهة مرض الجدري بدءاً من العام (1871)، لكنها تراجعت عنها، في منتصف القرن الماضي تحت ضغط الرفض الشعبي المنظم.
وفعلاً التاريخ يعيد نفسه والزمن في الفترة ما بين( 1902 و1905) عندما رفض المهاجر السويدي هينينغ جاكوبسون أخذ المطعوم المضاد لوباء الجدري الذي انتشر في شمال شرقي الولايات المتحدة الأميركية وقتل عشرات الآلاف من البشر، وبعد ثلاث سنوات من الصراع القانوني حكمت المحكمة لصالح إدارة ولاية ماساتشوستس ضد هينينغ ونص قرار المحكمة أن للحكومة صلاحية فرض التطعيم في الحالات التي تكون فيها المصلحة العامة أهم من المصلحة الخاصة والحرية الشخصية للأفراد. وفي النهاية قضت المحكمة العليا بحق الولايات بإلزامية التطعيم في القضية المعروفة بـ”جاكوبسون مقابل ماساتشوستس”، واليوم تشترط جميع الولايات تلقي المطعوم لدخول المدرسة.
وللآن يتذرع رافضو سياسة إلزامية تلقي المطاعيم بالحرية الشخصية وكون أجسادهم ملكا لهم وليس لأحد غيرهم الحق في تقرير ما يدخل إليها، لكنهم يغفلون عن حقيقة أن مبدأي الاستقلالية والمسؤولية مترابطان؛ أي أن أحدهما يكمّل الآخر، فلا استقلالية دون مسؤولية وعقلانية.
فالمتابع لتطور أدبيات رافضي التطعيم عبر السنوات الماضية على وسائل التواصل الاجتماعي يشهد تحولاً ملحوظاً في رواياتهم حيث أصبحت مصطلحات مثل الحرية الفردية ورفض “أبوية الدولة” سائدة على حساب نظرية المؤامرة والتشكيك في سلامة المطاعيم.
إن مبادئ أخلاقيات الطب تضمن للإنسان حق الاختيار فيما يتعلق بصحته، شريطة ألا يؤثر ذلك على صحة الآخرين، فالذين يتباكون على الحرية الشخصيّة لرافضي المطاعيم يتغاضون عن حرية بقية أفراد المجتمع وخاصة الضعفاء منهم، وهم الأكثر تأثراً بالعدوى.
قانونيا تتباين مواقف الدول تجاه إلزامية التطعيم، فقد خلصت دراسة نشرت العام الماضي الى أن مائة دولة من أصل مائة وثلاث وتسعين تمت دراسة سياساتها المتعلقة بالمطعوم تتبنى على الأقل أحد أشكال الإلزام علما أن هذه السياسات لا تتسم بالثبات وانما تتغير حسب الوضع الوبائي.
لكن على الرغم من ذلك، تبقى إلزامية التطعيم آخر الحلول التي يجب أن تلجأ إليها الحكومات والمؤسسات بعد استنفاد كافة الوسائل الأخرى من نشر الوعي والتأثير بالقدوة واستخدام سياسة الترغيب وبعدها فقط يمكن اللجوء إلى سياسة الإجبار على تلقي المطعوم.
إن المعضلة الأهم التي تدعو بعض الناس لرفض المطاعيم والتشكيك فيها هي انعدام الثقة بينهم وبين مؤسسات الدولة نتيجة لسنوات طويلة من غياب العدالة والتهميش وانعدام الشفافية، ولا بد لأي تدخل من تدخلات الصحة العامة لاسيما منها التطعيم، أن نستعيد هذه الثقة كي تنجح، وهذه لا تكون وليدة اللحظة وإنما نتاج عمل مضن و دؤوب “فعند الغارة لا تفيد العليقة”.

Related Posts

Next Post

Welcome Back!

Login to your account below

Retrieve your password

Please enter your username or email address to reset your password.

x  Powerful Protection for WordPress, from Shield Security
This Site Is Protected By
Shield Security