عايش: الهيئات تجاوزها الزمن وأثرها على الاقتصاد محدود
صدى الشعب – ميس اسامة
بينما يواصل ملف الهيئات المستقلة إثارة تساؤلات واسعة حول جدواه وكلفته على المالية العامة، تتزايد التحذيرات من اتساع حالة “الاستنزاف المالي” التي يقول خبراء إنها باتت عبئًا يصعب تجاوزه من دون مراجعة جذرية وشاملة.
وفي المقابل، يرى آخرون أن الصورة ليست سوداء بالكامل، مؤكدين أن بعض هذه الهيئات يؤدي أدوارًا رقابية أو تنظيمية لا يمكن الاستغناء عنها، وأن منها ما يحقق إيرادات ترفد الخزينة وتقلل الضغط عن الموازنة.
وبين هذين الطرحين، تكشف البيانات الرسمية أن العجز المالي المقدر في موازنة العام الحالي يشكل أحد أبرز التحديات؛ إذ يبلغ العجز نحو 2.58 مليار دينار بنسبة 18% من إجمالي النفقات، فيما يقفز العجز في موازنات الوحدات الحكومية المستقلة إلى 850 مليون دينار، بما نسبته 47% من إجمالي نفقاتها البالغة 1.799 مليار دينار.
ورغم أن بعض الوحدات يقدم إيرادات أو خدمات أساسية، إلا أن إلى أن جزءًا كبيرًا منها بات بحاجة إلى مراجعة دورية، وإلى إعادة هيكلة أو دمج، لضبط النفقات وتحسين الكفاءة.
وبهذا الإطار، قال الخبير الاقتصادي حسام عايش إن ملف الهيئات المستقلة بات يشكّل أحد أهم التحديات التي ترهق المالية العامة، مؤكداً أن جزءاً كبيراً منها “لم يعد ضرورياً”، وأن العديد من الوحدات التي أُنشئت بعد عامي 2003 و2004، ووصل عددها إلى نحو 60 هيئة، أصبحت اليوم “جزرًا مالية منعزلة خارج الإطار الحكومي”.
وأوضح عايش، خلال حديثه لـ”صدى الشعب”، أن من الضروري التمييز بين وحدات حكومية تاريخية وأساسية، مثل البنك المركزي ودائرة الإحصاءات العامة، وبين الهيئات التي تم إنشاؤها لاحقاً بموازاة وزارات حكومية قائمة، كهيئات تنظيم الطاقة أو النقل أو الطاقة النووية، مشيراً إلى أن وجود هذه الهيئات كان منسجماً مع مرحلة معينة، لكن تلك المرحلة انتهت، والدور الذي تؤديه اليوم بات شكلياً أو يمكن أن تقوم به دائرة داخل أي وزارة.
وقال إن هذه الهيئات تحولت، بفعل استقلالها المالي والامتيازات الكبيرة التي يحصل عليها موظفوها، إلى مراكز قوى خارج الجهاز الحكومي، تُبقي حالة من الاستنزاف للمالية العامة من دون أثر فعال، خصوصاً وأن كثيراً منها لم يظهر دوره في الأزمات، ومنها جائحة كورونا.
وأشار إلى أن التداخل بين الوزارات والهيئات يربك المشهد التنفيذي، ويقلّص صلاحيات الوزارات، ويجعل المساءلة أقل وضوحاً مما هي عليه في المؤسسات الحكومية، مضيفاً أن بعضها أصبح نادياً لتوظيف كبار المسؤولين أو أبناء كبار المسؤولين”، مشيراً إلى وجود رواتب وأجور “تتجاوز نسبياً رواتب رؤساء دول مقارنة بحجم الاقتصاد”.
وبيّن أن موازنات هذه الهيئات وصلت في بعض السنوات إلى ما يقارب ملياري دينار، مسجلةً 1.870 مليار دينار في موازنة 2026، مقابل 1.8 مليار في الموازنة السابقة و1.6 مليار في سنوات أخرى، مؤكداً أنها تشكّل استنزافاً مستمراً وتُسهم في تراكم المديونية، خصوصاً في شركات الكهرباء والمياه التي تتجاوز مديونيتها 9 إلى 9.5 مليار دينار.
عجز مرتفع وأثر مباشر على الموازنة العامة
وأوضح أن العجز في موازنات الوحدات المستقلة للعام 2026 قبل المنح بلغ نحو 746 مليون دينار، ما يرفع العجز الكلي عند إضافته إلى عجز الموازنة العامة إلى نحو 3.5 مليار دينار.
وأشار إلى أن الحكومة تتحمل هذا العجز بصورة مباشرة عبر المساعدات والتحويلات المالية لهذه الوحدات، إضافة إلى أن بعض المنح الخارجية الموجهة للأردن تُصرف لصالح هذه الهيئات.
ودمج الهيئات ، أكد أن إعادة الصلاحيات إلى الوزارات تعيد الولاية العامة لها وتخفف الهدر، لافتاً إلى أن عدد الهيئات يفوق عدد الوزارات، ما يجعل الدمج ممكناً للبعض فقط، فيما يمكن تقنين أو هيكلة البعض الآخر، بينما هناك هيئات تجاوزها الزمن تماماً.
وأضاف أن عملية الدمج قد تزيد عدد الموظفين في الوزارات، لكنها ستخفض كلفة الرواتب العالية في الهيئات، متوقعاً أن يرفض موظفون في هذه الهيئات الانتقال بسبب الفارق الكبير في الرواتب والمكافآت.
وأشار إلى أن القطاع العام الأردني، الذي يشغل 37.6% من القوى العاملة، يعاني أصلًا من ترهّل إداري ووظيفي، وأن الدمج يحتاج إلى آليات واضحة لعدم زيادة هذا الترهل.
الإصلاح الحقيقي يبدأ من إصلاح هذا الملف
وشدد على ضرورة اعتماد معايير دقيقة لتقييم الهيئات، تشمل كلف التشغيل والعائد المالي، وجدوى القرارات، وطبيعة الصلاحيات، والمخرجات مقارنة بالمخصصات، والعائد التاريخي خلال آخر 5 إلى 10 سنوات، مؤكداً أن “المنطق يفرض وقف الإنفاق على أي هيئة تكون كلفتها أعلى من عائدها.
ورأى أن إصلاح ملف الهيئات المستقلة يشكل الإصلاح الحقيقي الذي يمكن للمواطن أن يلمسه، بعكس الإصلاحات الشكلية المرتبطة بالقوانين أو الرسوم أو البيانات الحكومية.
وقال إن تخفيض موازنات الهيئات بنسبة 50% سيوفّر نحو 900 مليون دينار، أي ما يعادل أكبر مساعدات كانت تحصل عليها المملكة، وأكثر من حجم الاستثمارات للنصف الأول من العام الحالي.
وأضاف أن هذا التوفير سيخفض العجز الحكومي من 2.125 مليار دينار إلى نحو 1.2 مليار دينار، ما سينعكس على خفض المديونية وكلف الفوائد، وتحسين المؤشرات الاقتصادية، وزيادة فرص العمل، وزيادة الإنفاق الاستهلاكي والاستثماري، وبالتالي تسريع النمو الاقتصادي.
وانتقد التذرع بالحاجة إلى “الكفاءات” للإبقاء على الهيئات، متسائلاً عن أثر هذه الكفاءات على النمو الاقتصادي الذي بقي ثابتاً حول 2–2.7% منذ عام 2009.
وقال إن الرواتب المعلنة لبعض العاملين قد ترتفع إلى ضعفيها أو أكثر بسبب الحوافز والبدلات، لتصل في بعض الحالات إلى 10 آلاف أو 25 ألف دينار شهرياً، من دون أي أثر ملموس على تقليل العجز أو تحسين الإيرادات أو تطوير العملية الاقتصادية.
وأشار إلى أن وجود هذه الكفاءات لم ينعكس على تحسين الأداء في قطاعات النقل أو الاتصالات أو الاستثمار، وأن كثيراً من شاغلي هذه المناصب ينظرون إليها كمرحلة انتقالية للعمل لاحقاً في الخارج.
وقال إن نحو 50% من الهيئات المستقلة “لا ضرورة لها إطلاقاً”، وإن المرحلة تجاوزتها، وإن استمرارها يبقي النزيف المالي، داعياً إلى مراجعة شاملة تؤدي إلى الهيكلة أو الدمج أو الإلغاء، وفق دراسات ومعايير دقيقة، بما يعيد الكفاءة إلى الإدارة العامة ويخفف العبء عن المالية العامة.
