مرام النابلسي.. محامية وكاتبة
“الاحتلال سيقتحم الشفاء”، هكذا جاء الخبر العاجل الذي تلته مكالمةً مسجلة تحتوي تبليغ جيش الاحتلال نيته اقتحام المشفى، جاء هذا التبليغ عبر صوتٍ “هُلاميٍ” يتحدثُ العربية بركاكة، يتساءلُ بنبرة غير مستفزة عن أقسام المشفى، كان واضحاً منها أنه يريد فقط أن يبلغ القرار ليبدأ ببروده وعنجهيته حرباً نفسيةً تستهدفُ المدنيين بشكلٍ مباشر، بينما بدأ مدير عام صحة غزة الدكتور منير البرش المتواجد مع المرضى والنازحين داخل مبنى مجمع الشفاء الطبي بشرح مستفيض عن أحوال المرضى الصعبة، وحالة الجثث المتراكمة في المدخل، وعن حالة الرعب والذعر التي انتشرت بين أوساط الجميع لمجرد علمهم بنية الاقتحام، وعن ضرورة مراعاة أحوال المرضى الحرجة وعدم التعرض لهم، وتحميل جيش الاحتلال المسؤولية عن كل ما قد يحدث، في محاولةٍ شجاعةٍ لبذل “جهد اللحظات الأخيرة” ما قبل وقوع مجزرة محتملة على يد عدوٍ لا يتورع عن شيء، ولا تحكمه أية مبادئ إنسانية أو أخلاق، ولا يتوانى عن انتهاك القانون.
يأتِ هذا الاقتحام ضمن الصورة النمطية الهمجية لجيش الاحتلال كـ “تنفيذ” لقرار اتخذه الاحتلال لصالحه وفي محاكمةٍ أقامها بنفسه، وتحقيقٍ أجراهُ بمفرده و”أدلة” اصطنعها بنفسه لنفسه، ليقدمها للعالم على أنها الحقيقة المطلقة التي لا تقبل عكسها، كمبرر ومسوِّغ لاقتحام “مشفى” يفترض أنه يتمتع بحماية خاصة وفق نصوص القانون الدولي الإنساني، على زعمٍ من القول أن هذا المشفى مركز لقيادة وعمليات المقاومة، وأن تحته أنفاق تستخدم لأغراض قتالية.
وإذا ما وضعنا هذه “المحاكمة” العجيبة وكل أدلتها المفبركة جانباً، نتساءلُ كيف يمكن لمشفى بحجم مشفى الشفاء – أكبر مشفى في قطاع غزة -، يقع على مربع وله أربعة مداخل، يخدم شريحةً سكانية تزيد عن السبعين ألف مواطن، مكتظٌ بنزلاء المرضى وزوارهم، ومرضى العيادات الخارجية وذويهم، والحركةُ دائبة ٌفيه طيلة الوقت، كيف يمكن لمكانٍ كهذا أن يكون مركزاً لعمليات عسكرية تتطلبُ الدقة والسرية التامة؟! كيف يمكن أن يحتوي على أنفاق تستخدمُ لأغراض عسكرية، وكيف يمكن الدخول والخروج منها وإليها من دون لفت انتباه أحد؟!
والأهم من كل هذا؛ كيف تقوم حركة شعبية مقاومة هدفُها بالأساس استعادة الحقوق، ووقف الاعتداء، وتمكين شعبها من حريته وحقوقه وأمنه، وهذه كلها أمور ترتبط ارتباطاً عضوياً بالمواطنين المدنيين، كيف يمكن لحركة تحرر شعبية هذا قوام مقاومتها وهذه أسس حراكاتها أن تجازف بحياة أبناء جلدتها وحاضنتها الشعبية؟! بل كيف يمكن أن تكون أحد أهم أهدافها المُعلنة في كل عملياتها المقاومة هو “تحرير الأسرى والمعتقلين في سجون المحتل”، بينما تغامرُ في أرواحهم وهم في كنفِ مراكز الطبابة والتمريض؟!! أفتحررهم من سجون المحتل داخل وخارج الخط الأخضر، كي تقتلهم في مشافي غزة؟!
ومع سيلٍ لا ينقطع من اللامنطق، وبالعودة لتلك “المحاكمة الهزلية”، وفي ضوء غياب تام للقانون والمؤسسات والأصول القانونية الدولية التي يجب أن تُتبع في حال النزاعات المسلحة فيما يتعلق بالتفتيش، فضلاً عن إجلاء المدنيين وإخلاء القتلى وتوفير الرعاية الطبية والحماية للجرحى، وتأمين الممرات الآمنة ومقومات الحياة للمواطنين العُزَّل، في ضوء غياب كل ذلك وغيره يقوم جيش الاحتلال بمسحٍ جوي قصف من خلاله كل ما يمكن قصفه من ملكيات خاصة وملكيات عامة ودور عبادة ومشافي ومرافق خدمية، مستهدفاً بشكل خاص كل ما يعين الغزيين على البقاء أحياء من مخابز ومحطات المياه وغيرها، منتهكاً بذلك القانون الدولي الإنساني لاسيما اتفاقيتي جينيف الرابعة ولاهاي، وفي كل مرةٍ كان يؤكد على أنه وهو يقصفُ قطاع غزة بالصواريخ؛ إنما يستهدفُ مواقع عسكرية، في محاكمةٍ أخرى مسبقة أجراها وإنما من الجو!!
ومع استمرار الغياب آنف الذكر؛ قام الاحتلالُ “منفرداً” بتفتيش منازل المدنيين وعقاراتهم، والمرافق الخدمية العامة، والمشافي، حاملاً معه أدلته الواهية التي وضعها في أماكن متفرقة بسذاجةٍ لا تنطلي على طفلٍ صغير، ثم قرر أن المشافي ما هي إلا مراكز قيادية وعملياتية للمقاومة، واكتشف حسب زعمه أنفاقاً وأسلحة، لم تكن في الحقيقة سوى أقبية وآبار مياه ومنافذ تهوية، وبـواسطة “فبركة” بدائية تتناقضُ وامتلاكه منظومةَ الـ “High Tech” الضخمة، صوَّرَ مقاطع وزورها واعتبرها أدلةً دامغة نتجت عن ذلك التفتيش، ومنح نفسه بناء على ذلك الحق في اقتحام مشفى الشفاء، وبذلك يكون الاحتلال قد فتشَ وحققَ وقررَ ونفَّذ القرار “العقوبة” التي قَدَّرَها، وصدَّرَ كل هذا العبث للعالم؛ منتظراً أن يصدقه أحد غير متحيزٍ بطبيعة الحال لروايته مهما كان حالُها.
تقول القاعدة العامة في قوانين البينات والإثبات المختلفة، “أنه لا يجوز للخصم أن يصطنع دليلاً لنفسه”، أما الدليل فهو “خبرٌ قولي أو شيء مادي أو تقرير فني، صالح قانوناً مقبول عقلاً ومنطقاً، يستخدم لإثبات ادعاء أو دفعه”، أي أن الدليل الصالح المقبول عقلاً ومنطقاً، لا يجوز قانوناً أن يكون من صنع الخصم لنفسه، وهذا ما استقر عليه الفقه والقضاء، فإن كان هذا المبدأ ينطبقُ على الأفراد في معاملاتهم ودعاويهم المدنية، فكيف به في النزاعات المسلحة؟ وكيف به فيما يصنفه القانون “جرائم” بل إنها هنا ليست أي جرائم، وإنما جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية؟!
إن ما فعله الكيان الصهيوني في المحاكمة العسكرية التي أجراها، بدءاً من التفتيش مروراً بالتوثيق المزعوم والتحقيق وليس انتهاء بتنفيذ الاقتحام لإجراء “عملياته الخاصة” داخل مبنى مدني هو في الحقيقة مجرد مشفى، ما هي إلا جريمة حرب وجريمة ضد الإنسانية مشهودة وموصوفة بالقانون، وإن كنا نسميها “محاكمة” على سبيل المجاز؛ فذلك لأن الكيان الصهيوني سمح لنفسه دون أن يرف له جفن بتجاهل دور المؤسسات الدولية ذات الصلة وفي مقدمتها الأمم المتحدة ومؤسساتها وبالحلول مكانها أيضاَ، وأن يعقد محاكمةً يكون وحده فيها الحاكمُ والجلاد معاً، متجاوزاً بذلك القانون وأصوله وإجراءاته، متناسياً أن الأمر منوط بفرق تفتيش دولية مُدربة ولجان مختصة تتشكل خصيصاً لهذه الأغراض، وتقوم بالتفتيش اللازم وتحصي الأدلة إن وجدت، وكل ذلك بالرغم من دعوة وزارة الصحة ومديرية المشافي في غزة ومدراء هذه المشافي لتشكيل تلك اللجان من أي جهات دولية محايدة، وعدم ممانعة تفتيشها، غير أن “المسار المستقيم” إن استقام سوف لن يجدِ نفعاً مع أهداف الكيان الصهيوني وغاياته، وسوف يكلفه ويكلف راعيه الامبريالي الأول – صاحب الضوء الأخضر- مزيداً من الفضائح ومزيداً من الأكاذيب لتغطيتها، لا سيما في ظل الغضب الشعبي المتزايد الذي يجتاحُ العالم تضامناً مع قطاع غزة، وانخفاض مؤشر تأييد الكيان الصهيوني في الولايات المتحدة الأمريكية ذاتها، ذاك الانخفاض الذي بدأ يطال بعض مؤسسات الدولة وكبار مسؤوليها، فضلاً عن تنامي بعض الدول كروسيا والصين باتجاه قطبيةٍ جديدةٍ محتملة، وكلها أمور لا يرغب الكيان ولا أميركا في مواجهتها، إلا أن السحر قد آن أوانه فيما يبدو لكي ينقلب على الساحر.
إن المخالفات الجسيمة التي ارتكبها الكيان الصهيوني منذ بداية عدوانه على قطاع غزة في 7 أكتوبر وما تلاه من مجازر بحق المدنيين في المشفى المعمداني وغيره وصولاً إلى كارثة مشفى الشفاء، كلها جرائم تطاولت كماً ونوعاً بشكل كبير ومركَّز على القانون الدولي الإنساني، لاسيما على مبدأين هامين جداً هما “مبدأ التمييز” الذي يوجب التمييز بين الأهداف العسكرية والمدنيين، حيث يعتبر أي هجوم على مدني أو “مبنى مدني” كالمنازل والمرافق الطبية والمدارس والمباني الحكومية جريمة حرب، طالما أن المبنى لم يتم الاستيلاء عليه للاستخدام العسكري، بل أنه إذا كان هناك شك فيما إذا كان الهدف مدنياً أو عسكرياً، فيجب البناء على أنه مدني.
أما المبدأ الثاني؛ فهو “مبدأ التناسب” الذي يحظر شن هجوم “يُتَوَقَع منه” أن يؤدي إلى خسائر في أرواح المدنيين، أو إصابتهم أو إلحاق الضرر بالأعيان المدنية بشكلٍ مفرط مقارنةً بالمنفعة العسكرية المتوقعة، وقد انتهك الكيان الصهيوني هذين المبدأين صراحةً، وخصوصاً في مشافي المعمداني والرنتيسي والشفاء، حيث لم يتم التمييز في الأهداف بين ما هو عسكري وما هو مدني، ولم يحرز الكيان هدفاً عسكرياً حقيقياً واحداً من أهدافه التي حددها منذ بداية العدوان بـ كسر المقاومة، وتدمير سلاحها، واستعادة المحتجزين، بل اكتفى باختلاقِ استعراضاتٍ و”انتصاراتٍ” وهمية، في حين كانت الخسائر في أرواح المدنيين الغزيين والأعيان المدنية والكوارث الإنسانية التي تسبب فيها الاحتلال، تفوق الحد بشكلٍ باتت شعوب العالم وأنظمته الحرة وبوادر الانشقاقات السياسية في الأنظمة الداعمة للكيان الصهيوني وشعوبها التي تهمها جداً فاتورة وجدوى هذا الدعم، باتت كلها غير مستعدة لتجاهله، هذا إذا أخذت في عين الاعتبار أيضاً البيئة الدولية التي باتت هي الأخرى مستعدةً ومهيأةً للتغيير حتى وإن كان نسبياً.
إن جرائم الاحتلال بحق المدنيين الفلسطينيين ليس فقط في غزة، وإنما في كل فلسطين التاريخية لم تعد مجرد انتهاكات لقانون يفترض فيه أنه إذا طُبق أن يحقق نسبةً هامة من الانصاف – على فظاعة عدم تطبيقه -، كما لم تعد مجرد عدوان يتم التستر عليه ومحاباة فاعله، بل إنه من زاوية نظر أخرى؛ بات عبئاً ثقيلاً على كاهل الولايات المتحدة الأمريكية وكل الدول الراعية للاحتلال، ومأزقاً سياسياً وقانونياً واقتصادياً وأخلاقياً سيلقي عليها بظلاله المُكلفة حتماً إذا لم تدرك حجم المشكلة التي أقحمها فيها الكيان المحتل متجاهلاً ومتمرداً على دوره “الوظيفي” الذي أوجده، وقد تحول لكيانٍ طُفيليٍ بحت سيجلبُ الضرر حتماً لمصالحِ سيده الاستراتيجية عاجلاً أم آجلاً، حيث التمادي من دون حساب بعد كل ضوء أخضر يحصل عليه من الراعي الأمريكي معتبراً أنه الأقدر على تقدير الموقف من موقعه، وليس التضارب بين قرارات الإدارة الأمريكية فيما يتعلق بالعدوان على غزة وبين أفعال حكومة اليمين الجديد المتطرفة في الكيان الصهيوني التي كثيراً ما شهدناها في هذا العدوان، إلا إحدى صور هذا الضرر، لاسيما وأن هذه الحكومة أعلنت غير مرة تمردها الصريح على الولايات المتحدة في الأشهر القليلة الماضية. بقي أن نقول أن “غزة” اليوم يبدو أنها ستكون أحد محطات التغيير المفصلية، ليس فقط على صعيد القضية الفلسطينية، وإنما على أصعدة أخرى أبعدُ من ذلك