صدى الشعب – كتب رئيس التحرير خالد خازر الخريشا
ليس غريباً أن يخرج علينا رئيس مجلس نواب سابق عندما قال رغم وجوده منذ 18 عامًا كنائب في البرلمان منها 7 سنوات رئيسا للمجلس إلا نه ما زال لا يعلم عدد الهيئات الحكومية المستقلة ولا يعلم عن ماهية الكثير منها وما لذي تقوم به، مطالبا بدمج وإلغاء الكثير منها.
تعيش الدولة الأردنية منذ أكثر من عقدين حالة تضخم إداري واضح؛ تضخم لم يأتِ من زيادة عدد الوزارات أو توسع الجهاز الحكومي التقليدي، بل من الانتشار الكبير للهيئات المستقلة التي أصبحت اليوم أكثر من عدد الوزارات نفسها، وباتت تشكل عبئاً مالياً وإدارياً يصعب تجاهله.
منذ منتصف العقد الأول من الألفية، تبنّت الحكومات المتعاقبة سياسة إنشاء هيئات مستقلة تحت مبررات “المرونة” و“النجاعة” و“تسريع القرار” ومع مرور الوقت، تضخم عدد هذه الهيئات حتى أصبح بعضها بلا دور فعلي، وبعضها الآخر يكرر مهام وزارات قائمة أصلاً، فيما تحولت أخرى إلى “جزر معزولة” تعمل بمعزل عن السياسات العامة للدولة.
ورغم كل الحديث الرسمي عن الإصلاح الإداري وترشيق القطاع العام، يبقى السؤال الكبير لماذا لا تُدمج هذه الهيئات رغم أعدادها الكبيرة؟ لكن يبدو اننا نرتطم بجدار تضارب المصالح وقوة النفوذ حيث العديد من هذه الهيئات أصبحت مراكز نفوذ لمواقع قيادية يصعب المساس بها فدمج هيئة يعني عملياً إلغاء مناصب ورواتب وامتيازات وهذا ما يجعل بعض القوى المتنفذة تدفع باتجاه الإبقاء عليها كما هي كما أن بعض الهيئات تحظى بحماية سياسية مباشرة لكونها تشغل مواقع حساسة مالياً أو تنظيمياً.
وهناك مطب غياب الإرادة السياسية الحقيقية لهذا الملف والحكومات لا تزال تمارس سياسة المسكنات على الرغم من وجود توصيات رسمية متكررة، بما في ذلك من ديوان المحاسبة ومخرجات تحديث القطاع العام، إلا أن التنفيذ ظل محدوداً.
فالإرادة السياسية لدمج الهيئات غالباً ما تُصطدم بتعقيدات المصالح وبالمخاوف من ردود الفعل أو من فقدان “مراكز قوة” داخل الدولة وتتذرع الحكومات بأن بعض الهيئات تحتاج استقلالاً مالياً وإدارياً لتعمل بكفاءة أكبر لكن التجربة أثبتت أن الكثير من هذه الهيئات لم يكن مستقلاً إلا بالاسم أما فعلياً فهو ملحق بالحكومة ويستنزف مواردها عبر موازنات ورواتب مرتفعة تتجاوز أحياناً ما تتقاضاه الوزارات الأساسية.
وفي هذا السياق قال الخبير الاقتصادي منير دية، في لقاء سابق مع صحيفتنا، إن الوحدات الحكومية اليوم باتت تُوجِّه معظم إيراداتها نحو الرواتب والنفقات التشغيلية، الأمر الذي يرفع إجمالي نفقاتها للعام القادم إلى نحو مليار وثمانمائة وسبعين مليون دينار، منها مليار ومئتان وواحد وأربعون مليونًا كنفقات جارية فقط. ويشير دية إلى أن هذا العبء الكبير يستوجب إعادة النظر في جدوى استمرار العديد من الوحدات الحكومية، ودمجها داخل الوزارات للحد من النفقات والرواتب والإيجارات والمصاريف المتكررة.
ويضيف دية أن مراجعة أرقام موازنات الوحدات الحكومية تبرز ضرورة معالجة هذا الملف بشكل جذري، من خلال دمج الهيئات المستقلة والإبقاء فقط على الوحدات التي تحقق فائضًا ماليًا.
فوفق الأرقام، لا تحقق الفائض سوى ثماني وحدات حكومية فقط، أبرزها شركة المجموعة الأردنية للمناطق الحرة والمناطق التنموية بفائض يبلغ 11 مليون دينار، وشركة السمرة لتوليد الكهرباء بـ20 مليونًا، وتطوير العقبة بـ10 ملايين، إضافة إلى الشركة العامة الأردنية للصوامع بفائض يصل إلى 3 ملايين دينار. وفي المقابل، فإن بقية الوحدات إمّا بلا فائض أو تُسجل عجزًا ماليًا، من بينها خمس وحدات ذات عجز كبير تشمل سلطة المياه، وسلطة الكهرباء الوطنية، وشركة مياه اليرموك، وشركة مياه العقبة، وبورصة عمّان.
كما لم تخضع أغلب الهيئات إلى تقييم أداء فعلي وحقيقي يقيس أثرها على الاقتصاد أو الخدمة العامة. كثير منها يعمل بمنطق “البيروقراطية” نفسه الذي أنشئت أصلاً للهروب منه وبدون تقييم، يصبح الدمج خطوة بلا قاعدة بيانات تدعمها أو خطة واضحة لنتائجها ورغم أن كلفة هذه الهيئات تصل إلى مئات الملايين سنوياً، إلا أن الحكومات تفضل اللجوء إلى الجباية وسد العجز عبر الضرائب بدل الذهاب إلى خيار إصلاح القطاع العام جذرياً ويبقى المواطن هو من يدفع ثمن هذه الازدواجية في الإنفاق ودمج الهيئات يعني إعادة هيكلة، وتغيير مواقع وظيفية، وربما إحلال وإلغاء لبعض الوظائف وهذا ملف حساس قد تتهرب منه الحكومات لتجنب أي اضطرابات اجتماعية أو ضغط من النقابات.
الهيئات المستقلة في الأردن تحولت إلى بنية موازية للدولة تستهلك الإنفاق وتشتت القرار وتعمل أحياناً خارج المظلة الحكومية رغم أنها ممولة بالكامل من خزينة الدولة ورغم أن دمج جزء كبير منها ممكن وضروري، إلا أن القرار يحتاج جرأة سياسية وإعادة نظر شاملة في فلسفة الإدارة العامة وإن بقاء هذا الوضع على ما هو عليه يعني استمرار الهدر وتفاقم التشوهات المالية والإدارية، في وقت يحتاج فيه الأردن إلى كل دينار وكل كفاءة من أجل مواجهة تحديات اقتصادية متراكمة والدمج لم يعد خياراً إصلاحياً فقط بل ضرورة وطنية.




