نورالدين نديم
سأتوجه للحديث عن الطبيخ، وحتى في الطبيخ سأبتعد عن التعليق على الأكلات التراثية والطبخات الوطنية، حتى لا يفسر حبي لواحدة دون أخرى بخطاب كراهية ضد واحدة دون أخرى أو تحريض على مقاطعة إحداها، أو تأثير على حريّة الآكل..
العلاقة بيني وبين الطعام علاقة عشق لا تنتهي، تفوقت على حكايات قيس وليلى وأنطونيو وكليوباترا، ولم تكن يوماً مبنيّة على ردة فعل، أو هروب من مواجهة واقع، أو استجابة لضغوطات، أو خوفاً من قوانين وغيرها.
إنها علاقة وطيدة، بنيت جسور الثقة فيها وتعمّقت جذورها، مما يجعل من المطبخ مسكني ومأمني، فرحي وسعدي، أعيش فيه نفسي وأعبر عن رأيي وأتخذ قراري دون أدنى خوف، فأنا مالك نفسي وقراري، أنا من أقرر متى أضع الملح، أزيده أو أنقصه، أشعل النار حدّ الغليان أم أخفضها لتستوي الطبخة على نار هادئة، أشوي دجاجتي أم أسلقها، أستأثر بلسان الخروف وأتفنن بقطعه من لغاليغه، واستمتع برؤية الرأس دون لسان أو عيون أو حتى مخ، فما حاجته للمخ إن كنت اشتهيته لحظة جوع، فأنا هنا سيّد المطبخ، وفيي من الوله والتعلق فيه، ما يجعله مأمني وأماني.
فعلى سبيل المثال استيقظت قبيل الفجر بساعة، على حلم مزعج “كابوس” أتصبب عرقاً في حالة خوف أسمع فيها ضربات قلبي كمن يقرع الباب علي مستغيثاً يطلب جواري، فاستعذت بالله من الشيطان الرجيم، وهممت بالكتابة فتذكرت وساوس الشيطان، فقرأت سورة النّاس، ثم هممت بالاتصال بصديق فتذكرت الرقيب والعتيد من الملائكة يسجلون كل شاردة وواردة ويراقبون كل حركة وسكنة، فقرأت سورة الفاتحة، وفكرت فلم أجد غير المطبخ يناديني أن هلم إلي أنا أؤويك فافتح لي قلبك وتكلّم، فما كان مني إلا أن تناولت مريول الطبخ وانتقيت فرائسي من جاط الخضراوات وأمعنت فيهنّ تقطيعا وتفكيكاً، ثم رميتهن في مقلاتي وزرعت بينهنّ قرناً من الفليفلة الحارّة جدّاً، لتتقلّى في زيت من زيتونٍ طحنته حجار الرحى ثم ضغطته الحجارة الثقال، ليتصفى زيته يدويّاً بصبر الخبير وحنكة الحكيم، واستمتعت برائحة الاستواء وطشطشة قطع البندورة وهي تتزاحم في المقلاة، لتختال يدي بين تمسكها الهش، وتنتقي أجود لقمها، لتشبع معدتي الفارغة، واشغلني عن حلمٍ كاد يحلّق بي حدّ النهاية المحتمة.
في بلادنا العربية تختلف طرق الطبخ ويتوحد هدفها في إشباع الجائع، وتلذذ الآكل، وعنفوان الشيف وابتكاراته، فبين من لا يأكل اللحوم حتى لا يفزع بقتل حيوانٍ أو سلخ جلده وتقطيع أوصاله، فيلجأ إلى قلع الخضروات من أرضها وتهجيرها إلى ثلاجته وقطف الثمار عن أمها وتقطيعها بسكينه، وبين من يكثر من استعمال السمن البلدي، والدهن الحيواني، ويبتعد عن استعمال الخضراوات والحشائش.
فالمطبخ يا سادة يا كرام، وأن اختلفت مواده وتوحدت أدواته وتنوعت أساليب مستخدميه، إلا أنه يبقى المكان الآمن الذي لا مكان فيه للسياسة ومطبّاتها وتناقضاتها، ولا مجال فيه للتحزّب والتعنّت، فما يهم فيه هو نجاح الطبخة وجودتها، وما يحرص عليه الطابخ هو تحقيق الجودة وكفاية الكمية، والتعامل بحرفية ومهنية.
المطبخ يجتمع فيه الجميع من أفراد العائلة (المعارضة والموالاة) بعيداً عن تجاذبات السياسة، ومهاترات السياسيين.
الجميع يدخل المطبخ لهدف واحد وهو (إشباع الذات) بصمت، فهو فقط يريد أن يعيش، يأكل، يستمتع، يملأ بطنه ولتذهب السياسة إلى الجحيم.
في مطابخنا نراعي “الجندر” فالتقدّم فيه للكفاءة بغض النظر عن الجنس، مع أن النساء لا زلن يتصدرن الريادة والقيادة في فنون الطبخ، حتى انتشرت ظاهرة المطابخ الانتاجية، والطبيخ البيتي، لغايات تجارية وتشغيلية.
المطبخ مكان للاصلاح بين الأزواج المتخاصمين، فيه أقصر الطرق الى القلوب، حيث انولد الحب، فالأكل كما كانت تقول أمي رحمها الله : ( الأكل نَفَس إن صُنع بحب اختلف طعمه وزادت بركته).
لا هزيمة في المطبخ ألا إن حُرقت الطبخة في غفلةٍ عن طابخها، أو سقطت من يده حين سكبها، أو شرد ذهنه فرشّ السكر بدلا من الملح!!
لحظتها فقط تنتقل نار المطبخ لباقي البيت لتُحدث الانقسام، ولن يعيد الأمور إلى مجاريها ويصلح ما خابت به الأيدي، سوى (طلبات) ليحوّل الهزيمة إلى إنتصار، والتوتر إلى إرتياح.
المهم لا أحد يقول لي أنّ للسياسة مطبخاً، وهو شبيه بمطبخنا، فلو أن مطابخ السياسة تشبه مطابخنا، لما فشلنا في صناعة الأمل، ونشر ثقافة الانتاج والعمل، فمطابخنا تطبخ بحبٍّ ورفقٍ وتأنّي، بينما السياسة لا دين لها، يشوبها الكره والتسلق والمصلحية.