صدى الشعب – كتب د. منذر الحوارات
لقد حطمت الحرب على غزة كل الأرقام القياسية السابقة، بل وأسقطت كل التابوهات التي بُنيت على أن الكيان سينهار في أي حرب طويلة، لكن هل يمكن القول إن إطالة الحرب والعدوان باتت إستراتيجية متعمدة؟ اعتقد البعض أن مصلحة نتنياهو السياسية هي السبب الرئيس وراء ذلك، لكن التعمق في مجريات الحرب يثبت أن هذه إستراتيجية دولة وليس هدفاً لسياسي بعينه كائناً من يكون، فالقراءة المتعمقة للأحداث تشير إلى ذلك، فسيناريو الحرب منذ اليوم الأول يثبت أن دولة الاحتلال تلاحق في حربها هدفاً أول وأساسيا ألا وهو السكان، وهذا يعود بنا إلى الوراء عند نشأة الفكرة الصهيونية والتي تحدثت بوضوح عن الأرض الخالية من السكان، وكان المعنى هنا ليس أرضاً لا يوجد بها سكان، ففلسطين معروفة بأنها آهلة بالسكان منذ فجر التاريخ لكن المقصود هو إفراغ هذه الأرض من السكان قسرياً وطوعياً.
وما يؤكد استهداف العنصر البشري أنه منذ عقود قرر العقل الباطن في دولة الاحتلال أن الخطر الإستراتيجي الذي يواجه الكيان هي القنبلة الموقوتة الكامنة بين ثناياه، والمقصود هو العدد المتزايد للسكان الفلسطينيين، لذلك كان الخطر الأول الذي ينبغي التصدي له بالنسبة لقادة الاحتلال هو كيفية القضاء على هذا الخطر المتفاقم يومياً، وأكاد أجزم أن كل مولود فلسطيني جديد أصبح يشكل هاجساً لقادة دولة الاحتلال، وما يدلل على محاولة جسرهم لهذه الهوة السكانية المتفاقمة هو ظاهرة استئجار الأرحام في دول أخرى للحصول على أعداد إضافية من المواطنين اليهود، ورغم أن هذا المشروع في بدايته إلا أنه يؤكد عمق الهواجس الإسرائيلية، وهنالك محاولات عديدة للتهجير القسري ذُكرت سابقاً ومثلها من محاولات التهجير الطوعي بتسهيل هجرة الفلسطينيين إلى دول عدة، أما في الداخل وفي الضفة والقطاع فقد حاولت دولة الاحتلال ولا زالت تحاول خلق كل أشكال العقاب الجماعي، مثل الحرمان من الحقوق لدى فلسطينيي الـ 48 أو تنغيص سبل الحياة مثل بناء المستوطنات وتجزئة التجمعات الفلسطينية في الضفة وحرمانها من الخدمات ومحاولة خنقها، وفي غزة الحصار وتعميق الانقسام وتعزيزه بكل الوسائل.
ويثبت عدوانها الأخير أن هذا الهدف الإستراتيجي الرئيسي بين ثنايا الأهداف المرحلية ويطل برأسه في كل تفاصيل العدوان، فمنذ اللحظة الأولى تبين أن السكان هم ذلك الهدف، فقد لاحقتهم بالقنابل والصواريخ إلى أن وصل عدد مرات نزوحهم أكثر من ثلاث مرات في أقل من 7 أشهر، وكانت كل مرة تختلق الذرائع لقصف المنطقة التي يتجمع فيها أكبر عدد من الغزيين فقد لاحقتهم من الشمال إلى الوسط ومن الوسط إلى الجنوب وفي المستشفيات والمخيمات، وحتى في الجنوب من خان يونس إلى رفح والآن من رفح الى منطقة المواصي، وهي تتذرع بحماس في هذه المرات والآن بعد أن بدأت بالعدوان على رفح يتحدث قادة الاحتلال عن عودة حماس إلى الشمال، كل ذلك يؤكد أن دولة الاحتلال تريد إطالة معاناة الغزيين على أمل وحيد ورئيسي وهو أن تصبح الهجرة خياراً واقعياً لشعب ما يزال يرفضها وبشدة، وفي غضون ذلك اتّبعت خطة للسيطرة على معابر القطاع حتى تتحكم بالداخل والخارج وتتحكم بمستقبل أهله في كل المجالات، حتى الميناء البحري الذي تقوم الولايات المتحدة ببنائه والذي يبدو ظاهرياً مؤقتا، لكن في طياته أهدافا إستراتيجية كبرى، وأهمها وضع حدود بحرية واضحة للقطاع مُسيطر عليها ومراقبة أميركياً وإسرائيلياً.
إحكام السيطرة على مداخل ومخارج القطاع، بحرياً أميركياً / إسرائيلياً، وبرياً الجدار العازل في عمق القطاع مسافة كيلومتر، والسيطرة على كل المعابر يؤكد أن هناك إستراتيجية طويلة الأمد تُعدها إسرائيل والولايات المتحدة، وربما يكون القادم من مخطط أخطر بكثير مما رأيناه يضع في مقدمة أهدافه استنزاف سكان القطاع وإطالة زمن الحرب، وكل هذا الخراب والتدمير والقتل ليس سوى الخطوة الأولى من هذا المشروع الكبير والخطير، والأكثر خطورة أن إسرائيل ستبدأ خطوتها الثانية في اليوم التالي لإيقاف الحرب حيث ستختلق الذرائع من شتى الأنواع لمنع إعادة إعمار غزة، لذلك فإن مشروعها يستثمر الحرب بكل تفاصيلها المعقدة وأيضاً ما بعد الحرب هناك خطة أخرى طويلة المدى والغاية الرئيسة في كلتا الحالتين هي المواطنون الفلسطينيون، وهؤلاء في جوهر المشروع الصهيوني والذي يُعتبر نتنياهو وغيره ليسوا سوى أدوات من أدواته، لذلك يجب البدء بالتفكير الجدي عن الكيفية التي يمكن بواسطتها إيقاف الحرب وإعادة إعمار غزة وتوحيدها مع الضفة الغربية، وذلك لن يتم إلا بوأد مشروع إسرائيل التهجيري القسري والطوعي.
وبذلك يصبح واضحاً أسباب إطالة الحرب ومنع أي حل، فالأولى للتخريب والثانية لمنع الإعمار وفي كلتا الحالتين يكمن السبب بتهجير أهل غزة.