صدى الشعب – كتبت عبير مامي
وكأن لها نداء لا يُقاوم، يأتيك صوتها من وراء الشبابيك، من أصوات الباعة ونداء سيارات الغاز، نداء لا يوقظك من النوم بل يوقظ الذاكرة وينُهض القلب قبل الجسد، غزيرة المتناقضات، لكنها تُعلّمك فنّ العيش بين هذه التناقضات، ينقصها البحر وناطحات السحاب لكنها تملك سماءً قريبة تهمس لها بما تشاء، وحضن دافئ يشبه رائحة الأمهات.
هي مدينة لا تعرف الكمال ورفاهية التنظيم، شوارعها مكتظة وشتاؤها يفضح البنية التحتية، متواضعة في “مولاتها” ومراكزها التجارية وشوارعها العشوائية، لكنك تجد نفسك تحبها كما تحب أخوتك واصحابك على عيوبهم، تحبها بصمت، تتسلّل إليك كما يتسلّل صوت وإحساس فضل شاكر بعد غياب كأنها تملك ذاكرة لا تغيب رغم الغياب.
في بيوتها مشهد يتكرر بانسياب، لكنه يختصر الحكاية: “المجنونة” التي تتدلّى على الجدران والحوائط كضفائر فتاة غجرية تمنحك ألفة لا تُفسر، هذه النبتة التي تُعرف بالـ”بوغانفيليا”، يسميها أهل عمان بالمجنونة وكأنها تمثّل روح عمان الجميلة المشاكسة، الفوضوية العصية على الترويض، لكنها حين تزهر، تسرق القلوب، نبات المجنونة لا يسألك الإذن ليمدّ يده على الجداران، وكأنها يد تطبطب على روحك المنهكة من عناء الركض وراء لقمة العيش ومنغصات الحياة لتخبرك أن الأمل لا يزال ممكناً.
كل شيء فيها بسيط، لكنه نقيّ كماء جاري، قد لا تعطيك كل شيء ولكنها تشعرك بأنك في مكان يشبهك، كل زاوية فيها تحفظ شيئاً عنك، قد لا تُحسن تدليلك ولا تمنحك رفاهية المدن الذكية المتطورة سهلة المعيشة ولكنها لا تنفك عن إبهارك بتفاصيلها، لا تتخلى عنك وكأنها تعرفك من الداخل، أشبه بامرأة تقف على عتبة بيتها ترشّ الماء على التراب كما لو أنها تروي الذكريات المثقلة بالحنية والحب.
في عمّان، ثمة انقسام لا يراه الزائر، لكنه يلمسه في تفاصيل الحياة اليومية، منذ عقود، انقسمت عمّان إلى شطرين، عمان الغربية وعمان الشرقية ولا أتحدث هنا عن الفرق الجغرافي بل التقسيم الطبقي الذي رسّخته الثقافة الشعبية السائدة، لا تحتاج إلى خريطة لتعرف أين أنت يكفي أن تنظر حولك لتعرف أنك في عمان الغربية إذا لمحت مقهى باسم أجنبي والناس تشرب فيه اللاتيه أو الفرابتشينو وتقرأ كتب حول “الوعي الذاتي”، أو ترى شباب وصبايا بسماعات أذن ينزهون كلابهم في الشوارع أو تجدهم يهرولون للحاق بدرس اليوغا أو البيلاتس أو السامبا ناهيك عن حديثهم باللغة الإنجليزية معظم الأوقات، كل شيء محسوب من لون المناديل على طاولة العشاء، إلى زاوية التصوير لبروفايل الوجه.
قي المقابل إذا وجدت نفسك بين أناس لا يجيدون التباهي والتظاهر ولا يرتدون البراندات العالمية ويميلون إلى الستر في أغلب الأوقات، يمرّوا على أوجاعهم دون ضجيج فستعرف أنك بلا شك في عمان الشرقية، حيث تلمح دكان أبو علي الذي يبيع علكة الشعراوي وسكاكر القباقيب، والناس هناك يحلفون عليك لمشاركتهم الغذاء او احتساء فنجان شاي كرك يقطر حلاوة، هنالك لا يوجد ما اسمه “خصوصية”، كل الجيران تعرف تفاصيل حياة بعضهم البعض بحلوها ومرها لا حاجة لتنزيل بوست على الانستغرام للتعبير عن الفرحة بنجاح أبنائهم او قبولهم في جامعات دولية عريقة أو الإعلان عن ترقية مهنية، وإذا كان هنالك عرس توزع الكنافة على الجميع مع ترديد عبارة “يخلف، يخلف… الله يزيد الافراح”، والكلاب عندهم للحراسة فقط بالإضافة إلى تميز سكانها بالشماغ الملفوف والضحكة التي تخرج من القلب المثقل بفواتير الكهرباء والمياه!
عمان تحب سكانها دون مقابل لا تساومهم ولا تفرض عليهم معايير معينة لترضىى عنهم بل تتركهم على سجيتهم بلهجتهم، بأحلامهم، بأخطائهم ونزواتهم، وهي لا تكذب ولا تتجمل بل تقول الحقيقة: “أنا لست مثالية، ولكني مدينة تحبك”






