كتب – راكان الخريشا – في كل عام، تتخرج دفعة جديدة من طلبة الصحافة والإعلام، محمّلين بالأمل، مشبّعين بشغف المهنة، مدجّجين بما يلزم من معرفة نظرية وخبرة ميدانية مكتسبة بشقّ الأنفُس خلال سنوات الدراسة، يخرجون إلى الساحة وهم يظنون – وربما يحلمون – بأن أبواب المؤسسات الإعلامية ستُفتح لهم، وأن ميكروفونات الإذاعات وعدسات الكاميرات ستتلقف طاقاتهم، وأن الصحف ستشتاق لحبر أقلامهم الطازج، لكن سرعان ما يتلقّون صفعة الواقع، حين يكتشفون أن غالبية تلك الأبواب موصدة، والمقاعد مشغولة، لا بخبرات شابة مثلهم، بل بأسماء تقاعدت رسميًا ولكنها ما زالت تُحكم قبضتها على المشهد.
لا يكاد يخلو بيت إعلامي في البلاد من واحد أو أكثر ممن تجاوزوا سن التقاعد، يعودون بعقود خاصة، أو يُستدعون بصفة “مستشارين”، أو يُمنحون مهام إشرافية لا تحتاجها المؤسسة بقدر ما تحتاج إلى ضخ دماء جديدة، وبينما يُمدَّد لهؤلاء عامًا بعد عام، يبقى الشاب الخريج ينتظر على قارعة البطالة، ينظر للمشهد من بعيد، يتساءل متى سيتحرر الحقل الإعلامي من هذا الاستنزاف المزمن للفرص؟ لا أحد يجيبه، وحده الانتظار يطول، والأمل يتآكل، والشغف يبهت.
المفارقة أن كثيرًا من المؤسسات الإعلامية ترفع شعار التجديد والتطور ومواكبة العصر الرقمي، بينما تُدار بعقليات كلاسيكية أرهقها التكرار، ووجوه تصدرت المشهد لعقود حتى أصبحت جزءًا من الأثاث الإعلامي، لا تزول ولا تتغير، والغريب أن الحجة دائمًا جاهزة “الخبرة لا تُعوّض” نعم، لا أحد ينكر أهمية الخبرة، لكن هل هي حكر على من تجاوز الستين؟ وهل الخبرة تعني الاستمرار إلى ما لا نهاية، ولو على حساب جيل كامل ينتظر دوره؟ وإذا كانت المؤسسات تؤمن بالخبرة فعلًا، فلماذا لا تُحتَضن وتُدرَّس وتُنقل، بدل أن تُوظَّف وتُمدَّد وتُكرَّس؟
الشباب اليوم لا يطلبون المستحيل، كل ما يريدونه هو فرصة، مساحة، موقع واحد يُثبتون فيه قدرتهم، ويترجمون فيه كل ما تعلموه، ويخوضون من خلاله تجارب الميدان الفعلي، لكن الواقع يخبرهم أن المهنة مُحتكرة، وأن مقاعدها محفوظة، وأن الوصول إليها يتطلب أكثر من شهادة وكفاءة وشغف، في هذا الجو المشبع بالاحتكار، يبدأ اليأس بالتسلل، وتتسلخ الأحلام من أصحابها، فيتجه البعض إلى وظائف لا علاقة لها بالإعلام، أو يهاجرون إلى مجالات أخرى، أو يبقون عالقين في حالة “الانتظار القاسي” الذي لا يُثمر شيئًا.
المشكلة لا تتعلق بعدد الوظائف، بل بكيفية إدارتها وتوزيعها، فحين تُحوَّل وظيفة المتقاعد إلى امتياز دائم، وحين يُصبح التقاعد مجرد رقم على الورق، يفقد الشباب ثقتهم بعدالة الفرص. والمؤسسات الإعلامية التي ترفض التجديد، وتغلق نوافذها في وجه الأجيال الجديدة، لا تضرّ نفسها فقط، بل تُخسر الإعلام روح المستقبل، وتُبقيه يدور في فلك الأسماء القديمة ذاتها، حتى وإن اختلفت المناصب.
ما يحتاجه المشهد الإعلامي اليوم ليس مزيدًا من الاستشارات المتقاعدة، بل ثورة في الفكر الإداري، تُعيد توزيع الأدوار، وتُعلي من شأن الكفاءة، وتُعيد الاعتبار للمهنية، وتفتح الأبواب لمن يستحق، لا لمن اعتاد الجلوس على ذات الكرسي لعشرين عامًا، التقاعد ليس نهاية العمر، لكنه يجب أن يكون نهاية الاحتكار، وبداية لجيل جديد يستحق فرصته في النور.