صدى الشعب – كتبت عبير البرغوثي
لا تحتاج إلى بحث استقصائي ولا حتى لوقت طويل حتى تكتشف أنك أمام تنين عملاق بكافة المقاييس، هذا هو ما يستقر في وعيك كزائر ما إن تطأ قدماك وتبدأ أولى خطواتك على أرض الصين، سبعون ثانية تحتاجها لتجول بناظريك في أرجاء المكان من حولك، من بوابة المطار وحتى بداية شوارع التنمية والبناء والأبراج ومصانع العالم، إنها الصين التي لم تحتج لأكثر من سبعين عاما لتتحول من دولة معزولة إلى واحدة من أعظم القوى الاقتصادية في العالم، إنها القطب الذي يرتكز عليه اقتصاد العالم من الألف الى الياء.
أكتب هذا المقال بعد زيارة مهنية استضافتها كلية هونان للتجارة الخارجية لكوكبة من الصحفيين الفلسطينيين، تزامنت مع تواصل احتفالات البلاد بمرور نحو سبعة عقود على تأسيس جمهورية الصين الشعبية، لتكشف مسيرة غنية وثرية وموضع اهتمام المعنيين سواء يتفقون أو يختلفون مع هذا النموذج العصري الجديد لبناء وولادة الأقطاب في عصر يشهد مزاحمة في كافة المجالات.
لا يخفى على كل متتبع لتطور الصين أنها قطعت مسافات في زمن قياسي، فهي ثقل العالم السكاني (نحو 1 من كل 7 أشخاص من سكان العالم صينيون) وهي دولة مترامية الأطراف، ولم تكن في أفضل أحوالها حينما تسلم الحزب الحاكم مقاليد الحكم، فقد كان الفقر والأمية متفشيين في أوساط السكان ولم يكن لدى الصين أي شركاء تجاريين ولا علاقات دبلوماسية واسعة. وكانت تعتمد كليا على الاكتفاء الذاتي باعتباره الخيار المتاح في ظل ظروف قاهرة على مختلف مكونات الدولة.
أتاحت لنا الزيارة وما صاحبها من لقاءات ونقاشات وزيارات ميدانية، فرصة تاريخية للتعرف على مسيرة الانجاز، لا سيما تلك المرتبطة بما شهدته السنوات الـ 40 الماضية، التي اعتمدت فيها الصين سلسلة من الإصلاحات الاقتصادية والصناعية والإدارية والمالية والتجارية وغيرها، ما كان من شأنه فتح الطرق التجارية والسماح بالاستثمارات، وهي خطوات أدت في نهاية المطاف إلى إخراج الملايين من دائرة الفقر، وفتحت الأفق أمام نهضة التنين الصيني على النحو الذي فرض نفسه كقطب دولي له حضوره ودوره المتنامي على الساحة الإقليمية والدولية في مختلف المجالات.
تبدو مسيرة البناء والتحول قصة نجاح مبهرة وملهمة، فمن دولة وظروف اقتصادية مقيدة بالفقر قبل عقود، إلى ثاني أكبر اقتصاد في العالم، ومن صادرات بلغت نحو 10 مليارات دولار فقط عام1978لتتجاوز نحو 4,3 تريليون دولار خلال السنوات الماضية لتصبح الصين أكبر دولة مصدرة للسلع في العالم، وليطلق عليها الاقتصاديون “ورشة العالم”.
ما يلفت النظر في تتبع مسيرة التطور والتحول التي تشهدها الصين، هو الشمولية والتنوع الذي تشهده القطاعات المختلفة، هناك ورشة إنتاج تنخرط فيها كافة الفئات السكانية وكافة المدن، سباق محموم على تحقيق التنمية والنمو، تحديات مركبة للموازنة بين المتطلبات والأولويات داخليًّا وخارجيَا، فالعالم واقتصاده باتا مترابطين ومتداخلين في كافة العمليات والتداعيات، وتجنب تأثير الأزمات من القضايا التي تحظى باهتمام واسع من قبل الجهات المعنية، يشير الصينيون الى إدراكهم للأزمات العالمية كما حدث خلال جائحة كورونا عام 2020، وكيف تمكن التنين الصيني من مواصلة النمو رغم ما خلفته تلك الجائحة على اقتصادات العالم أجمع.
إدارة بلد بهذا الحجم من السكان ورفع معدلات ومعايير المعيشة لنحو مليار ونصف المليارمن السكان، تشكل واحداً من العناوين الواضحة للتغييرات التي تم تحقيقها لنقل السكان من حالة الفقر لمستويات معيشية أفضل، وهذا التغيير تؤكده تقارير دولية، فوفق البنك الدولي فإن أكثر من 850 مليون من الصينيين تمكنوا من الخروج من دائرة الفقر ما يؤهل الدولة للتخلص من الفقر بشكل كلي، وما يزيد من عمق وقدرة هذه التغييرات الاهتمام بموضوع التعليم، فالزائر يلاحظ التوسع الكبير لمؤسسات التعليم بكافة مستوياتها، ولعل ذلك ما يؤكده ما صدر من توقعات من بنك ستاندرد تشارترد بأن 27 في المئة من القوة العاملة في الصين ستحظى بتعليم جامعي بحلول عام 2030، وهو معدل يساوي وضع ألمانيا الآن.
الأبراج وتنظيم البنية التحتية لتكون بيئة جاذبة للمستثمرين تؤكدها حالة المدن والخدمات العامة التي تشهد طفرة عصرية متسارعة، ليس فقط في الكم وانما في الجودة، والانتقال المتدرج نحو أفضل التقنيات على مستوى الخدمات العامة، وهذه من المجالات التي تكشف نجاح القيادة الصينية خلال السنوات الماضية في إجراء اصلاحات اقتصادية سمحت بفتح الأبواب للاستثمارات، وتدفق الأموال من قبل المستثمرين الذين كانوا يتوقون للاستفادة من تكلفة العمالة الرخيصة والإيجارات المنخفضة في الصين، لتتحق معجزة البناء في زمن قياسي قصير.
كانت زيارة فتحت لنا نافذة للتعرف على نموذج للانتقال من الفقر إلى التنمية، ومن التبعية لقيادة سفينة الاقتصاد العالمي، نموذج بات ملهمًا لدول الجوار أيضًا، فباتت منطقة الصين ودول جوارها مركز العالم بكل المقاييس، وباتت موضوع اهتمام وتحليل من قبل المؤسسات والأفراد، يترقب الإعلان عن مؤشرات نموها القاصي والداني، وبات موضوع اهتمام كافة الدول على امتداد مشروعها العظيم المعروف بالحزام والطريق.
إعلامية فلسطينية .. مدير تحرير صحيفة الحياة الجديدة